انحنى مقبَّلا الأيادِيَ تزلفا وربت الأكتاف مطمئنا وضم إلى أحضانه متوددا، ثم فرض الإقامة الجبرية متجبرا واغتال متوحشا وسجن قامعا وأخرس الجميع مرهبا.. هذا ملخص علاقات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مع بعض ممن تقرب إليهم وقربهم منه.
ومنذ وصوله إلى ولاية العهد في يونيو/حزيران 2017، بانقلاب داخل القصر على أعراف ولاية العهد بأوامر من الملك سلمان بن عبدالعزيز، للأمير محمد بن نايف الذي كان وليا للعهد حينها بالتنحي لصالح نجله، لم يسلم من قمعه أحد سواء كان أميرا أو صحفيا أو داعيا.
وكانت الصفة المشتركة بين البارزين منهم أن لهم صورا توثق لحظات لقائهم مع ولي العهد، يظهر فيها الحميمية واللطف في تعامله معهم، لتتوالى الأحداث ويتمخض عن هذه الصور واقع بأن أصحابها باتوا بين معزول ومقطع ومدفون ومقموع الصوت ومبدلا لقناعته وسجين.
ويعد أبرزهم الأمير محمد بن نايف المعزول والمفروض عليه إقامة جبرية بقصره في جدة، والممنوع من السفر، والصحفي جمال خاشقجي الذي اغتاله بن سلمان داخل قنصلية بلاده في تركيا في أكتوبر/تشرين الأول 2018، والصحفي صالح الشيحي الذي توفي بعد شهرين من إطلاق سراحه.
أما الدعاة فحدث عنهم ولا حرج، فبعد الأحضان والصور التذكارية منهم من تغيرت أقوالهم تجاه الأحداث الجارية وفضلوا الانضمام لزاوية السلطة ومجاراة بن سلمان وإغداق المديح عليه، ومنهم من فضل الصمت عن أفعاله، بينما كان مصير المخالف لرأيه الزج به في السجن.
الأمير محمد بن نايف
انتهت ولاية عهده بعد مرور أكثر من عامين على حصوله على لقب ولي العهد، بأمر ملكي من الملك سلمان في يونيو/حزيران 2017، يقضي بعزله من ولاية العهد لصالح بن سلمان، بدعوى أنه مدمن مخدرات، بحسب ما نقلته الصحف الأجنبية.
وخلال مراسم نقل ولاية العهد أو ما يطلق عليها النظام السعودي “مبايعة” روّج الإعلام السعودي أخباراً بأنها جرت بشكل ودي، وأن الأميران أظهرا احتراما متبادلا وأن بن سلمان انحنى مقبلا قدم بن نايف بعدما صافحه وقبل يده.
ولكن عزل بن نايف لم يمنع الإعلام الغربي عن الحديث عن قوته ومكانته وقربه من دوائر صنع القرار الأميركية، مع كشف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، بعد أيام من تولي بن سلمان ولاية العهد، أن بن نايف، يخضع للإقامة الجبرية في قصره بجدة، وممنوع من السفر.
ليتبع ذلك إعادة تداول صور بن سلمان مقبلا يد بن نايف، ويعقبه بعامين تداول مقطع فيديو يكرر بن سلمان تقبيل يد بن نايف خلال عزاء ذوي الأميرة الجوهرة بنت عبدالعزيز بن مساعد، في قصر نايف بجدة، ويتلقف الإعلام هذه الصور والمقاطع، ويروج إلى اتحاد آل سعود خلف ولي العهد.
وعلى عكس ذلك، أفادت صحيفة واشنطن بوست في يوليو/تموز 2020، أن ولي العهد يخطط لتصفية بن نايف بالاغتيال أو من خلال حكم قضائي، مع تلفيق تُهم الخيانة والفساد المالي بالاستيلاء على 15 مليار دولار من خزينة وزارة الداخلية، ليكون هذا مصير من يقبل بن سلمان قدميه ويديه.
جمال خاشقجي
ما يجعل تصديق مساعي بن سلمان لاغتيال عمه بن نايف ممكنا، تورطه في واقعة الاغتيال المروعة والأشهر عالميا، للصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، والتي ما زالت تبعاتها تلاحقه حتى الآن وبات على إثرها منبوذا عالميا.
جمال خاشقجي، صاحب أفكار إصلاحية استخدم قلمه وكتاباته للمطالبة بإصلاحات سياسية وديمقراطية، وكان ناصحا للسلطة السعودية ولابن سلمان، وظهر في أحد اللقاءات إلى جانبه ويبدو أنهما كانا يتناقشان، إلا أن أفكاره لم تلق قبولا لدى ولي العهد.
فمنعه من الكتابة أو الظهور في البرامج التلفزيونية، الأمر الذي دفع خاشقجي إلى تفضيل المنفى الاختياري، رفضا لقصف قلمه، إلا أن ذلك لم يعجب بن سلمان أيضا، فأمر “فرقة النمر” بتصفيته، وتبع ذلك عملية استدراجه إلى السفارة وتقطيع جثته بالمنشار.
وباتت قضية قتل خاشقجي وصمة العار التي يحاول بن سلمان محوها تارة بإجبار أهل الدم على التنازل، وأخرى بعقد الصفقات مع الغرب بمليارات الدولارات وإقامة الاحتفالات وسباقات السيارات، لكن ذلك لم يكن ناجحا ولم ينس أحدا الجريمة التي تقشعر لها الأبدان.
مجلة “نيوزويك” الأميركية نشرت في أكتوبر/تشرين الأول 2018، حديثها الأخير مع الصحفي السعودي جمال خاشقجي، قبيل اختفائه وإعلان وفاته، بعنوان “المقابلة السرية”، والتي صرح فيها الراحل أنه يخشى على حياته كون النظام السعودي يعده معارضا.
صالح الشيحي
قبل اغتيال خاشقجي، كان الاستهداف متعمد للصحفيين السعوديين من أصحاب الرأي، والمطالبين بالإصلاح، ومنتقدي الفساد، وكان من بينهم الصحفي والإعلامي صالح الشيحي، الكاتب في جريدة الوطن الإصلاحية، وأبرز المهتمين بشتى القضايا المجتمعية المتعلقة بالرشاوى والفساد الإداري.
اعتقل الشايحي في ديسمبر/كانون الأول 2017، بعد استضافته في برنامج يا هلا على قناة روتانا، حيث أشار في حديثه إلى الفساد بالديوان الملكي وانتهاك القانون، ومنح أراضي الدولة لأشخاص نافذين ومراهقين وحرمان المواطنين العاديين منها وغيرها من ملفات الفساد الأخرى.
وأطلقت السلطات السعودية سراحه في مايو/أيار 2020، لكن صحته تدهورت بعد شهرين وتوفي في يوليو/تموز 2020، واتهم ناشطون السلطات بالإفراج عنه للتهرب من مسؤولية إيذائه صحياً ونفسياً خلال فترة اعتقاله.
وتعرضت أسرة الشيحي، بعد وفاته للقمع والإسكات، إذ كانت ابنته “وطن” قد غردت عقب وفاته قائلة: “اااااخ يا وجع قلبي عليك”، ونشرت شعرا ترثي فيه والدها، إلا أنها اختفت من التفاعل على موقع تويتر نهائيا.
وتوقع الناشطون إجبار السلطات السعودية لها على إغلاقه تجنبا للتعاطف الشعبي معها ومع كتاباتها عن والدها، داعين إلى محاسبة المسؤولين على التسبب بوفاة والدها، الذي سبق والتقى ولي العهد السعودي، والتقطت صورة يظهر فيها بن سلمان ضاما الشيحي.
عائض القرني
وعلى عكس ما فعله خاشقجي والشيحي، في مطالباتهم بالإصلاح ومناهضتهم للفساد، رأى آخرون الانبطاح والنفاق أسلم الطرق، فقد خلع الداعية السعودي عائض القرني، عباءة الإصلاح، واتهم الصحوة الإسلامية التي يقبع أصحابها في سجون بن سلمان بالتشدد والتضييق.
واعتبر أن الإسلام المنفتح المعتدل هو ما نادى به محمد بن سلمان، وقدم اعتذاره عن مواقفه الدينية والفكرية السابقة، خلال لقائه في برنامج الليوان على قناة روتانا، في مواكبة للسياسات التي تنتهجها المملكة وتنفيذا لأوامر ولي العهد.
يضاف إلى المواقف الموالية للداعية، معارضته الشديدة لقطر إبان الأزمة الخليجية، مؤكدا أن علاقته بها انتهت لاكتشافه تآمرها واستهدافها للسعودية، إلى جانب إيران والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بحسب ما زعم، ما عده مراقبون تلون فج ونفاق وتغيير المبادئ للتقرب من النظام.
يربط البعض تغيير القرني لآرائه بتولي بن سلمان لولاية العهد، وشنه حملة اعتقالات واسعة على الدعاة والحقوقيين والإصلاحيين في سبتمبر/أيلول 2017، إلا أن علاقة القرني بولي العهد قائمة منذ كان وليا لولي العهد، وسبق أن التقاه في مكتبه في مارس/آذار 2017.
وأهدى القرني، بن سلمان نسخة من كتابه الجديد “وأخيرا اكتشفت السعادة” والتقطا الصور التذكارية، ورغم أن هذا مثل اللقاء جرى مع عدد من الدعاة للاستماع لرؤية بن سلمان (خطة السعودية 2030)، إلا أن القرني تفرد بكتابة أبيات من الشعر، امتدح فيها لقاءه بابن سلمان.
محمد العريفي
الداعية الإسلامي محمد العريفي، كان من بين من التقاهم ولي العهد لمناقشتهم في رؤيته، وتداولت الصور التي يعانقه فيها، ليلتزم بعد ذلك الصمت تجاه ما يدور في المملكة من أحداث، وتجنب لإبداء أي رأي سواء كان معارضا أو مؤيدا، حتى فيما يخص اعتقال صديقه الشيخ سلمان العودة.
لم يجد العريفي حرجا في استخدام منصة التواصل الاجتماعي تويتر، لإعلان ولائه للسلطة، والتلميح لوجود مغرضين ومبغضين، لا يفرحون للسعودية بمجد ولا عز، ويتمنون لها الشقاق والخلاف.
ولم يجد ضرارا أيضا من الظهور كدليل سياحي، حيث ظهر مروجا للسياحة في منطقة في مدائن صالح، التي كان أصدر فتوى دينية سابقا حرم فيها زيارتها، ليثير الداعية الأسئلة في أذهان متابعيه ومحبيه بالوطن العربي وليس السعودية فحسب، ما الذي يدور، وما هذا التغيير؟.
كل ما سبق لم يمنع السلطات السعودية من اعتقال عبدالرحمن العريفي، نجل الداعية، في ديسمبر/كانون الأول 2018، بتهمة دعم جماعة الإخوان المسلمين، ومنع الشيخ من ممارسة الدعوة في المملكة، ومن أداء فريضة الحج، إضافة إلى منعه من السفر.
غرم البيشي
الداعية غرم البيشي، كان ضمن حملة اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017، التي نفذتها السلطات السعودية، بتهمة جمع أموال تحت مسمى الأعمال الخيرية ثم استخدامها في دعم وتمويل المنظمات الإرهابية، رغم أنه كان أيضا ضمن من التقاهم بن سلمان عقب عرض رؤية المملكة والتقاط الصور معه.
وعقب اعتقاله سجلت جدته مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، مناشدة من خلاله الملك سلمان وولي عهده لإطلاق سراح حفيدها، وقالت إنه “كان مطيعًا لهم مستجيبًا لأوامرهم ولم يخرج قط على النظام”.
كغيره من المعتقلين تعرض البيشي لانتهاك حقوقه، وتمثل ذلك في حرمانه من توكيل محام، ومنع من الاتصال بعائلته، كما قضى الشهور الأولى من اعتقاله مُكبلا بسلاسل معدنية، إلى جانب تعرضه بشكل مستمر إلى إهانات لفظية.