ابتهال الخطيب
أشياء غريبة تدور حولنا هذه الفترة وبشكل متسارع متلاحق. تقام الاحتفالات الصاخبة في السعودية وينطلق الشباب والشابات في رسم حياة جديدة مختلفة تماما لهم، في ذات الآن، تطلق الإمارات العربية حزمة من القوانين المختلفة، منها مثلا قوانين تسمح بالمساكنة لغير المتزوجين، تمرير قوانين البلدان الأصلية للمقيمين، أي عدم إجبارهم على الرضوخ للقوانين الإسلامية، كما وأن هناك بعض التغييرات في قوانين الطلاق والميراث والتحرش وتجريم الانتحار واستهلاك الكحول بما ينبئ بتوجه إماراتي ثوري تماما.
في مصر يخرج لاعب كرة معترضا على نشاط حقوقي لفرق كرة قدم بريطانية، وفي الكويت تزال شجرة كريسماس من إحدى المجمعات التجارية لمخالفتها لثقافة وشريعة البلد. بقي أن تفرض فرنسا الحجاب على النساء وتتحول أفغانسان للشيوعية حتى تكتمل القصة، ونعلن دخولنا الرسمي في زمن اللامعقول. شيء ما غير طبيعي يحدث حولنا، شيء ما متعاكس ومتناقض، “اللبس صيفي والوجه شتوي” على رأي الراحل الرائع، عملاق المسرح الكويتي، عبدالحسين عبدالرضا.
حقيقة الأمر أن التخوف مستحق وبذات المقدار من الانفتاح السريع تماما كما من الانغلاق التهديدي الشديد، فكلاهما إشارة إلى أن الإرادة الفردية معزولة وأن ديكتاتورية ما، تنويرية أو ظلامية، هي التي تمسك بزمام الأمور، وهذا النوع من التسيير الثقافي والسياسي والاجتماعي خطر ووعر تماما. منزلق حاد ذاك الذي يصنعه التوجه الشمولي، ينتظر فقط وصول الفرد الخطأ للمكان الخطأ، ليدفع بالجميع للهاوية.
هذه التناقضات الهائلة تشير كذلك إلى حقيقة ضياع “هوية” المفاهيم في عالمنا العربي وغياب فهمنا الحقيقي لها. فالديموقراطية نصبغها بالثيوقراطية الفكرية، الكويت مثالا، والتحرريات نفرضها بشكل شمولي ديكتاتوري، السعودية والإمارات مثالا، فلا الأولى اكتملت ديموقراطيتها المصابة بفصام حاد ولا الثانيتين استقر تحررهما وهو مفروض واستبدادي، لم يصحبه تغيير فكري ولا ثورة مجتمعية.
أحيانا، حين يستبد اليأس بالنفس، تبدو الديكتاتورية بنوعيها، الديني والتحرري، كأنها هي الحل في دولنا العربية الإسلامية، تلك الدول التي لا تحب الحريات ولا التفرد، حيث أن أسعد لحظات حيوات شعوبها تتحقق في ظهور بطل منفرد تضعه هذه الشعوب على قاعدة رخامية لتتعبده وتتبعه، حتى إذا كان واقفا محلك سر. لا الديموقراطية المنكوبة بالتحالف الديني السياسي قادرة على تحمل الحرية الشخصية والنقد الديني، ولا الديكتاتورية المتخفية في “ميني سكيرت” من الحريات الشخصية قادرة على تحمل الحرية الفكرية والنقد السياسي. تلتقي الحرية بالديكتاتورية في خلطة خليجية عجيبة عمودها السكوت وعنوانها “كُلْ واشكر”.
وعليه، دوما ما يبدو مفهوم النقد عصي القبول على مجتمعاتنا، ليس بالنسبة للأنظمة فقط ولكن بالنسبة للشعوب كذلك، لنستشعره دوما على أنه تدخل في خصوصياتنا، في حين أنه لربما هو في حقيقته إحراج لنا، فالشعوب التي تعيش في تناقض مستمر، يسهل جدا نقدها ويصعب جدا الدفاع عنها وتفنيد غرابتها. إلا أن هناك تغريب حقيقي لنا كشعوب عن مفهوم النقد وكيفية وضعه قيد الممارسة. فأن تقول رأيا مهما بلغت قسوته، سخريته، غربته عن الثقافة والمجتمع، خروجه عن الدين والعادات، سيبقى رأيا يستحق مساحة وصوتا، كما وأن نقد النقد هذا يستحق كذلك ذات المساحة والصوت. في المجتمعات المتحضرة فكريا يسمى هذا حوارا، تتبادل فيه كل الأطراف آراؤها مهما بلغ من حدتها وتضاربها، ولا يتهم هذا الحوار بالتحول إلى قمع إلا إذا ما تحولت الكلمات إلى أفعال لتكتم الرأي الآخر أو تسعى لتفعيل معاقبة قائله.
فمثلا، أن تشجعي أنت الحفلات في السعودية فهذا رأي، أن تطالبي بمعاقبة من يعارضون هذه الحفلات أو يقولون بحرمتها كلاميا فهذا قمع. أن تنتقد أنت نصب شجرة كريسماس في مجمع تجاري في الكويت فهذا رأي، أن تلح وتصرخ مطالبا بإزالتها رغم وجود من ينتمي للثقافة أو من يرغب في الاستمتاع بها من دون حتى الانتماء إليها فهذا قمع. أن تقولي أنت (يعني أنا) لأبو تريكة أنه يتدخل في شأن حقوقي لا يفقهه، وأنه لا يفترض به أن يفرض نسقه الأخلاقي على الجميع فهذا رأي، أن يطالب أبو تريكة القنوات التلفزيونية بمنع بث مباريات المونديال على التسعين مليون مشاهد مصري لأن فيها إشارة مخالفة لمفاهيمه الأخلاقية، رغم أن لديه خيار إغلاق التلفزيون أو عدم المشاركة في التعليق على المباريات، فهذا قمع.
ولا تقف مشكلتنا عند غرابة تركيبة الحرية الديكتاتورية والديكتاتورية المتحررة، ولا حد تجاهل الفرق الواضح بين النقد ونقد النقد وبين القمع، لكننا نذهب للمرحلة الأخيرة، حد ضياعنا التام في الدهاليز التي تفرق بين الدفاع عن حق ما والإيمان به. قد تدافع أنت عن حق الآخرين في الاستمتاع بالوجود العام لشجرة الكريسماس وأنت لا تهتم بها ولربما لا تحب مظهرها، وقد تصرين أنت على حماية حقوق المحافظين في الاعتراض على حفلات السعودية وقوانين الإمارات رغم إعجابك الشديد بالخطوات التي قد تبدو لك انفتاحية ليبرالية مواكبة للزمن من كليهما، وقد تصر أنت على حق النساء في اختيار مظهرهن رغم نفور قلبك المحافظ الذي ينحو للتغطي والاحتشام، وقد تصرين أنت على أحقية هذه المؤسسة الدينية في إنشاء قناتها وبث برامجها رغم أن نفسك “تغم عليك” كلما خرج مشايخها يتحدثون عن حكم نكاح الزوجة الميتة وإرضاع الكبير.
كل حرية تحمل في قلبها مشقة، كل احترام للتعددية يغرس صليبا على ظهرك، أو هلالا في جمجمتك، أو نجمة في بؤبؤ عينيك (حتى لا يغضب أحد)، كل ممارسة ليبرالية حقيقية تريك ما لا تريد أن ترى، وتسمعك ما لا تريد أن تسمع، وتضعك أمام ما يوجعك ويقهر قلبك. لكن المحصلة هي السلام والتعايش والمحبة والغفران، وذاك لعمري محصول غني، يكفي البشرية كلها العمر كله.
نقلا عن الحرة