كتب: مالك ونوس
الأمر الذي لم تتجرأ بعض الأنظمة العربية على فعله، أو ربما أنِفَت فعله، طَوال عقود من تطبيعها مع الكيان الإسرائيلي، ها هي دولة الإمارات تفعله مع خططها جعل الصهيوني، قاتل الأطفال الفلسطينيين، نديمنا في سهراتنا، ويتجوّل في غرف نومنا ويتراقص طرباً، كما لم يفعل أبطال السينما العربية ومسلسلاتها. وفي الوقت الذي تزداد فيه دعوات مقاطعة دولة الاحتلال ثقافياً وأكاديمياً واقتصادياً، تقتحم وزارة الثقافة الإماراتية ما حرَّمته الأنظمة التي سبقتها إلى التطبيع، لتتفق مع الإسرائيليين على التعاون في مجال الإنتاج السينمائي والتلفزيوني المشترك، مكللةً بذلك التطبيع واسع الطيف بينهما. ويحصل هذا كله وسط ذهولٍ واستغرابٍ، طاول حتى أبناء الدول العربية التي أقام حكّامها علاقاتٍ مع هذا الكيان في سبعينيات القرن الماضي.
لا تعاني دولة الإمارات من ضعفٍ أو خوفٍ من معارضة داخلية أو احتجاجات، أو من تهديد خارجي مؤكَّد، حتى يُسارع حكامها ويُغدقون على الإسرائيليين كل تلك الاتفاقات التي لم يحلموا بها حتى في أهنأ مناماتهم، مقابل أن يوفروا لهم الحماية، وهو ما درجت عليه بعض الأنظمة القمعية. كما لا تعاني من حصارٍ أو مقاطعة، لكي تبحث عمّن يخرجها من عزلتها فتجد ضالتها في الكيان الإسرائيلي الذي ترى أنه سيتكفل بفتح كل المغاليق أمامها ليعيدها إلى المجتمع الدولي، فهي الدولة الأكثر انفتاحاً وجذباً للاستثمارات ورؤوس الأموال، في المنطقة العربية والجوار، علاوةً على انفتاحها على المستويين الإعلامي والثقافي. كما تعدّى نشاط شركاتها حدود الدولة، وانتشرت استثماراتها في كل الأصقاع، حتى أصبح حلم أي شركةٍ متعثرةٍ أن يأتيها المنقذ من إحدى الشركات الإماراتية.
استناداً إلى ذلك كله، يثير الدهشة ما أُعلِن بعد لقاء وزيرة الثقافة الإماراتية نورة بنت محمد الكعبي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، خلال زيارته إلى أبوظبي، في 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أنها بحثت مع بينت التعاون القائم بين الطرفين في مجالات السينما والإنتاج التلفزيوني المشترك. ولو لم يكن هذا الأمر ذا أهمية قصوى، وربما استثنائية، لدى الإسرائيليين، لما خصّها بينت بلقاءٍ خلال زيارته القصيرة، فهو يريد دفع التعاون في هذا المجال إلى الأمام، بعد أكثر من سنةٍ على توقيع اتفاق التطبيع بين دولة الاحتلال والإمارات والبحرين برعاية أميركية. ومعروفٌ أنه بعد شهر من توقيع اتفاق التطبيع، وقَّعت لجنة أبوظبي للأفلام ومدرسة سام شبيغل للسينما والتلفزيون الإسرائيلي اتفاق تعاون للتدريب والإنتاج المشترك بين الطرفين. وكان من ضمن بنوده بند لافت يلحظ وضع خطة لتنظيم مهرجان سينمائي إقليمي سنوي، يعقد بالتناوب بين أبوظبي وتل أبيب.
ربما يكون السر وراء هذا الإعلان، وهذا الإصرار الإسرائيلي على تفعيل الاتفاق الذي لم يرَ النور من يومها، سعي الإسرائيليين إلى تحقيق اختراق شعبي يجمِّل صورتهم لدى الشعوب العربية. إذ يعرف بينت، وغيره من المسؤولين الإسرائيليين، مكانة فلسطين في الوجدان الشعبي العربي، وبالتالي صعوبة التطبيع الشعبي مع كيانهم. كما يعرفون صعوبة قبول الشعوب العربية وجود إسرائيل على الأرض الفلسطينية، ويعرفون إيمان هذه الشعوب بحتمية الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، عاجلاً أم آجلاً. لذلك لم يكن عبثاً تصريح بينت على مدرّج الطائرة بأن هدف حكومته هو “توسيع العلاقات حتى لا يكون السلام بين القادة وحسب، بل بين الشعوب أيضاً”. وهو ما يصعُب تحقيقه مستقبلاً، كما كان من الصعب تحقيقه أكثر من ثلاثة عقود بين الشعب المصري والإسرائيليين، على سبيل المثال.
وفي مقابل التطبيع الذي هبط عليهم، لم يغير الإسرائيليون سياستهم العدوانية تجاه هذا الشعب. ومن مظاهر هذه العدوانية محاولة مصادرة أملاك أهالي حي الشيخ جرّاح في القدس، وما أعقبها من حرب عدوانية طاولت قطاع غزة وسببت دماراً وقتلاً للأبرياء، علاوة عهل تُدخِل الإمارات الإسرائيليين إلى غرف نومنا؟لى مواصلتهم الاستيطان الذي روّج الإماراتيون أن تطبيعهم سيكون مقابل وقفه.
في أيامنا، وبفعل عوامل كثيرة مستجدّة، من بينها ازدياد البطالة وانتشار فيروس كورونا التي أقعدته في المنزل، صار المواطن العربي أسير وسائل التواصل الاجتماعي والمحطّات التلفزيونية، يتلقى ما تجود به عليه من دون أي اعتراض أو نقض أو حتى انتقاد. وهنا تكمن فرصة الإسرائيليين للبدء في إنتاج درامي إسرائيلي – إماراتي، أو ربما عربي مشترك، تظهر فيه الشخصية الإسرائيلية إلى جانب الشخصية العربية لخوض نقاشاتٍ في مسائل مصيرية، أو ربما مواجهة أعداء مشتركين مفترضين، وغيرها من الصور الكفيلة بتغيير صورة الإسرائيلي قاتل الأطفال ومحتل الأرض، مع الزمن وبفعل التكرار. وسيراهن الإسرائيليون على أنه، يوماً بعد يوم ومسلسلاً بعد مسلسل وفيلماً بعد آخر، سيصبح تقبُّل المشاهد العربي الشخصية اليهودية التي يجسِّدها ممثلٌ إسرائيلي في مسلسل عربي أقل صعوبة.
منيت خطط الإمارات للتوسّع الاستراتيجي خارج حدود الدولة بفشلٍ، من أسبابه ضعف الأذرع التي عوَّلت عليها في مصر وليبيا والسودان واليمن والصومال وتونس وغيرها. كما أُهدِرَت أموالٌ إماراتية طائلة في هذه البلدان ولم تؤتِ أكلها، لأنها كانت صيداً في الماء العكر، أكثر منها محاولةً لتحقيق مكانة دولية أو دور، أسوة بأي قوة إقليمية. في ظل هذا الفشل، يأتي التقارب الإماراتي الإيراني لينفي فرضية التهديد الإيراني الذي كان دافع الإسرائيليين والإماراتيين لعقد اتفاقية التطبيع، ذات الطابع العسكري والأمني والاستخباري، من أجل مواجهته عبر حلفٍ متينٍ يضم دولاً أخرى.
بعد سنة من الاتفاق، وجد محللون إسرائيليون أن ثمار التطبيع مع الإمارات كانت متواضعة، تواضعٌ يقابله إحباط إماراتي بسبب الأمر نفسه. لذلك يرى الطرفان نفسيهما مجبريْن على البحث عن مطارح أخرى لتحقيق نجاح فيها، فلا يجدانها سوى في المواطن العربي الذي يريدان الإبقاء عليه مغلوباً على أمره، يسهل خداعه وزرع المعلومات المزيفة في دماغه، للسيطرة على عقله، ليسهل بالتالي عليهم تغيير صورة الصهيوني في وجدانه، وهو الطموح الإسرائيلي القديم والمُلحّ.
نقلا عن العربي الجديد