كتبت: ابتهال الخطيب
يتفشى الفساد في منطقتنا العربية بشكل مرعب لأسباب عدة متشابكة وتاريخية ومتجذرة جعلت من الفساد الناتج كينونة جيلاتينية القوام غريبة الطعم، لا معنى لها وأحيانا حتى لا فائدة منها، وكأن الناس وحكوماتها تمارس الفساد كهواية لا كوسيلة لتحقيق غاية، أو كأن الفساد أصبح فعليا أسلوب حياة يأتيه الناس من دون أن يستشعروا إتيانه، والأخطر، من دون أن يتحسسوا أو يُحرجوا أو يخافوا تنفيذه.
وليس الفساد المرعب الذي أشير إليه هنا هو فساد مالي، فهذا أقل أنواع الفساد خطورة وتأثيرا، أسهلها تمييزا، وأكثرها مباشرة من حيث التقييم والعقاب. الفساد المفزع الذي أشير إليه هنا هو هذا النوع من الفساد الأخلاقي “الناعم” الذي يزحف بهدوء وأناقة ثعبان جميل النقش، نوع لا يقتل الضمير ولا يهدد المبادئ والمُثل فحسب، إنما هو يأتي حتى على المناطق العميقة والفطرية في الروح البشرية، فساد يتحدى الخوف ويجعل الإنسان يأتي من الأفعال ما لم يمكن لبشر طبيعي صاحب ضمير وعقل، أو على الأقل صاحب عقيدة تردعه كما يفترض أن يكون، أن يأتيها.
لا تغيب عني صورة المُدرسة المصرية في منطقة الدقهلية التي احتاجت لقوة شرطة لإخراجها من المدرسة، والتي لم تنج رغم تحويط هذه القوة لها في محاولة لحمايتها، لتتعرض لضرب مبرح موجع مسجل صوتا وصورة من الجمع الذي كان ينتظرها خارج المدرسة. تلح علي المشاهد المؤذية لهذا الفيديو القصير، تحديدا مشهد نزول أحد الملتمين حولها بيده على رأسها في صورة حقيرة، مخزية وموجعة. لماذا كل هذا؟ لأن هذه المدرِّسة حاولت إيقاف عملية غش في المدرسة، مما دفع بأهالي الطلبة للتجمع لضربها على الباب لتسببها في تراجع أبنائهم.
مباشرة يحضرني مشهد تجمع الأهالي في اعتصام في الكويت عند أبواب وزارة التربية قبل بضع سنوات احتجاجا منهم على رسوب أبنائهم في الدراسة بسبب اصطيادهم بالجرم المشهود: الغش في الامتحانات النهائية للسنة. ترن كلمات أحد أولياء الأمور في ذهني وهو يقول حانقا ما معناه: هؤلاء “عيالكم”، ولم يأتوا جرما كبيرا، فقط غشوا في الامتحان، وهل تريدون إقناعي بأن أساتذة الجامعة الذين وصلوا لمرحلة الدكتوراة لم يغشوا قط؟ لم يستوعب هذا الأب الكوارث المختزنة في كلماته والتي لربما أهمها كارثة أنه هو شخصيا أب ومربي يقف موقف المبرر والمبسِّط لسلوك الغش في الامتحان. إلا أن المعاني الكارثية المبطنة في كلمات هذا الرجل تذهب لأبعد بكثير وهي تشير بوضوح لخرابات حلت بالجيل الماضي ولكارثة التعليم الحقيقية المحيقة بالبلد خصوصا من حيث وجود شكوك حول شهادات أعلى الدرجات الأكاديمية فيه. هل فعلا عملية الغش مقبولة إلى الحد الذي يسوغ لأولياء الأمور أن يخرجوا احتجاجا على معاقبة أبنائهم بدل من أن يختبؤوا خجلا في بيوتهم من فعلة هؤلاء الأبناء؟ وهل فعلا انتشر الغش لحد وصوله للجسم الأكاديمي الأعلى في الدولة؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فهل أصبح الغش أمرا بسيطا ومعتادا حد أن يتلفظ ولي الأمر هذا به كتهمة زور تجاه أكاديميي البلد دون عقوبة أو تبعة؟
ومثلما لم تتورع إحدى السيدات عن السرد العلني الأريحي لحكاية استخراجها لأذون طبية غير حقيقية لأبنائها تبريرا لغيابهم عن مدارسهم، لا تحرج أخرى من أن تفخر بتسجيل اسمها صوريا في إحدى شركات البلد لتحصل على مبلغ “دعم العمالة” الذي تصرفه الكويت للعاملين في قطاعها الخاص تشجيعا لهم، ولا تحرج غيرها من أن تعرض على صديقة لها الاستفادة من بطاقتها الخاصة ببرناج “عافية”، وهو نظام التأمين الصحي الحكومي للمتقاعدين في الكويت، انتحالا لشخصيتها للاستفادة من الخدمات الطبية الخاصة على بطاقتها. سلوكيات صغيرة منمنة تشكل أسلوب معيشة وشكل حياة، ليأتي النتاج فاسد قبل أن يكتمل ولتغيب المبادئ تماما عن المشهد، والأخطر والأمر، ليتحول الفساد هذا كله بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة لأمر معتاد، مسرود علنا، بل ومتفاخر به.
ليس من الواضح تماما أين ينمو هذا الفساد في البداية وأن يفرخ في النهاية، هل تؤسس له الحكومات بأنظمتها وإداراتها وقضائها التي كلها من المحيط إلى الخليج، وإن كان بنسب متفاوتة، تعيش فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أسلوب استبدادها وطريقة فرض سيطرتها على الشعوب وحالة نخر الفساد لكافة أذرعها، أم هل تؤسس له الشعوب التي تنتج هذه الحكومات وتشكلها؟ وعلى الرغم من فداحة الفضائح الحكومية الكبرى التي تظهر بين الفينة والأخرى في هذه الدولة أو تلك، هنا سرقة كبرى، هناك اغتيال علني، في بقعة أخرى تكميم للصحافة، وفي غيرها فتح للمعتقلات وانتهاكات مخابراتية للشعب، إلا أن الخطورة الحقيقية تكمن في قلب الشعب، في القصص الصغرى في حياته، في التهاونات الأخلاقية اليومية البسيطة، في اعتياد الانهيار القيمي واتهام من يحاول التمسك بها بالمبالغة والسخافة، في التحول غير المرئي السريع للاعتياد إلى استحسان ثم إعلان ثم تفاخر بالفساد.
لقد استتب في الضمائر الشابة اليوم مفهوم الوصول بأسرع الطرق وأقلها مشقة، مهما بلغت التكلفة الأخلاقية، وهذه فكرة مرعبة حقا تذكر بفجر البشرية البدائي الذي لم تكن تحكمه بعد منظومة أخلاقية متطورة وتنذر بعودة سريعة إليه. إذا كان الدمار الحياتي الناتج لا محالة عن هذا الفساد لا يقلق الناس، ألا يقلقهم عقاب رب يؤمنون به ويعتقدون تماما بجنته وناره؟ وكيف يسعى شخص لإتمام صلاته وتفاصيل وضوئه قبلها على أتم وجه قلقاً تجاه كل تفصيل من تفاصيلهما، ليتبع ذلك بتزوير ورقة أو اللجوؤ لوساطة أو التصويت لمرشح برلماني فاسد؟ كيف يغيب الربط في العقول المحافظة المؤمنة بين الحياة العامة بيومياتها والخالق الذي صنعها كلها؟ هل يصليك الله النار إذا نسيت ركعة في الصلاة ولا يحاسبك على الغش في الامتحان؟ كيف خلقت العقول العربية هذه المعادلة الغرائبية المريضة؟
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”