شكّلت ثورات الربيع الديمقراطي العربي 2011 ضربة جديدة لمقولات المدرسة الثقافية في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، إذ إنّها قامت بعملية “حرق مراحل” فترات طويلة، من الإصلاحات الدينية والثقافية والتعليمية والاقتصادية. كانت هذه المدرسة تدّعي أنّها مطلوبة للوصول إلى عصر التقدّم العربي المنشود، ومن دونها لا يمكن أن تحقق أيّ أمةٍ أو مجتمع الحرية المنشودة، فالتقدّم والإسعاد على قدر الاستعداد، كما دافع الشيخ محمد رشيد رضا!
على أيّ حال، بدت لحظة الربيع وكأنّ بنيان المدرسة الثقافية قد انهار تماماً، فطالما أنّ الشعوب والمجتمعات تحرّكت نحو الحرية والعدالة، وفكّت قيود الاستبداد والاستعبادين، النفسي والثقافي، فذلك يعني أنّ الوصول إلى الديمقراطية والتحرّر والتقدم ليس مرتبطاً بعمليات إصلاح ديني أو ثقافي أو مجتمعي أو تعليمي، بالمعنى الذي كان يدعو إليه شيوخ المرحلة الإصلاحية الأوائل، بخاصة الإمام محمد عبده وامتداد مدرسته على يد محمد رشيد رضا، ولاحقاً مالك بن نبي فجودت سعيد. وعلى شواطئ هذه المدرسة تأتي جهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ورؤى مجموعة من المفكرين التنويريين في العالم العربي والإسلامي، مثل أحمد كمال أبو المجد وطارق البشري ومحمد سليم العوا.
حسناً، بعد عقد من الربيع العربي، من الضروري مراجعة الأحكام الصادرة بإعدام المدرسة الثقافية في التغيير السياسي في الفكر الإسلامي أو نفيها، لأنّه وبالرغم من لحظة الحرية والتحرّر البرّاقة في بدايات الربيع العربي، تبيّن لاحقاً كم أنّ المفاهيم المؤسّسة للمدرسة الثقافية ما تزال مهمة وفاعلة، سواء في تشريح الواقع العربي والإسلامي، وما فيه من كوارث وأزمات ومصائب، أو من حيث أهمية العاملين، النهضوي والإصلاحي، في التغيير السياسي، وعدم القدرة على العبور إلى مرحلة الاستقرار الديمقراطي، من دون وجود شروط وروافع ثقافية ومجتمعية واقتصادية.
ما الذي يدفع إلى هذه المرافعة عن المدرسة الثقافية؟ يمكن الإشارة هنا إلى جملةٍ من الأمور الرئيسية، في مقدمتها بروز سؤال الدين في المجال العام، وأهمية وجود تصوّرات ناضجة لتعريف هذا الدور وتطوير ثقافة اجتماعية – سياسية، ترى الإسلام من خلال المنظور النهضوي والتنويري والتحريري للإنسان، لا من خلال المنظور الإحيائي – الإيديولوجي. صحيح أنّ حركات الإسلام السياسي، عموماً، قامت بدور مهم في ممانعة الأنظمة الدكتاتورية والتسلطية والتصدّي لها، لكنّها لمّا وصلت إلى مواقع القوة أو المشاركة فيها غرقت في إعادة تعريف رؤيتها للدين ومراجعة المواقف الأيديولوجية التقليدية من إقامة الخلافة والدولة الإسلامية (بالمعنى التاريخي الذي روّج أيديولوجياً)، فلم تستطع، عموماً، تقديم تفسير- تأويل للدين يقوم على بنيوية مشروع النهضة الاقتصادية والمدنية والتنوير الثقافي. لذلك اصطدمت الحركات الإسلامية بما كانت تقدّمه هي من وعود أيديولوجية لم تُبنَ على أساس صحيح أولاً، وبعدم وجود إرثٍ عميق لها يساعد في تفسير الإسلام بما يقارب، بصورة معرفية تقدمية، المشكلات التي تصيب المجتمعات العربية اليوم.
ليس سرّاً أنّ أغلب، إن لم يكن جميع، الحركات الإحيائية الإسلامية (المنبثقة من منظور تعبوي وأيديولوجي للإسلام وليس معرفياً تنويرياً) أحدثت قطيعة تاريخية معرفية وفكرية مع المدرسة الثقافية – الإصلاحية (سادت في القرن السابق والربع الأول من القرن العشرين، حتى الحرب العالمية الأولى ونتائجها وانهيار الخلافة العثمانية)، بل أكثر من ذلك حكمت “الإحيائية الإسلامية” على “الإصلاحية الإسلامية” بالإعدام، بعدما أطلقت عليها نعوت الخيانة والعمالة للاستعمار والتكفير والتضليل، فأصبح جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والأمير شكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم متهمين ومدانين من الأجيال الإسلامية التالية التي تربّت في أحضان الحركات الإسلامية، بفروعها الإخوانية والسلفية. وكانت كتب محمد محمد حسين (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) ومحمد قطب وغيرهما من مئات المؤلفات والرسائل الجامعية والكتب التي نوقشت وألفت في الجامعات العربية ودانت تلك المدرسة.
وإذا كان بعض أصحاب هذه المدرسة لم يتم تكفيرهم وإدانتهم، كما حدث مع مالك بن نبي ومدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فإنّ العقوبة كانت النفي من تشكيل الوعي الإسلامي المعاصر وتشكيلاتهم، وإبعادهم عن التأثير في الثقافة العامة وفي “الطلائع الإسلامية” التي حكمت بتعبئة سيد قطب والمودودي وفتحي يكن والمدارس الإسلامية الأخرى التي رأت في الإسلام أيديولوجيا تحريضية تعبوية أكثر منه مفاتيح نهضوية وتقدّمية.
ما دفع أيضاً إلى مراجعة أهمية المدرسة الثقافية الحرب الداخلية في العالم العربي- الإسلامي بين السني والشيعي، الإسلامي والعلماني، التي مزّقت المجتمعات العربية والإسلامية، ودفعت بها إلى أتون الهاوية في أحوال كثيرة، وأصبحت مسرحاً للألعاب الدولية والإقليمية وأمراء الحروب.
ذلك بعض من دوافع ردّ الاعتبار للمدرسة الثقافية على صعيد تشريح الوضع القائم. لكن ما هي أهمية هذه المدرسة على صعيد تفسير الواقع وديناميكياته، على صعيد البحث في المسار المطلوب للتغيير، فأين ظهرت أهمية المدرسة الثقافية المغيبة عن القوى الإسلامية الفاعلة اليوم؟ ثمّة أمور عديدة يمكن أن تظهر أهمية المدرسة الثقافية، وفي مقدمة ذلك أنّها جعلت الإصلاح الديني شرطاً رئيسياً للتغيير والعبور من التخلّف نحو النهضة، ولم تضع المسؤولية فقط على عاتق الأنظمة أو لم تربط الخراب وأهمية الإصلاح في المجال السياسي فقط، بل تعدّته إلى أهمية الإصلاح المجتمعي والتعليمي والتربوي والثقافي، وربطت، بصورة بنيوية وعضوية، بين إصلاح المجتمع والتطوير والنهضة والاقتصاد والتغيير السياسي، فجعلت الإصلاح بمثابة حلقاتٍ متصلة متكاملة وليست متناقضة، كل منها يؤدّي إلى الأخرى. وبذلك قدّمت لنا استشرافاً مبكّراً بعدم قدرة المجتمعات العربية على الوصول إلى عصر الحرية والديمقراطية، من دون أن تكون هنالك روافع دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
لقد ركّزت المدرسة الثقافية في الإصلاح على تحرير عقل الإنسان وروحه مفتاحاً رئيساً للتغيير، كما نرى في اهتمام محمد عبده بمشروع الإصلاح الديني والتعليمي، وجعلت الجمود الديني مصدراً رئيسياً من مصادر العطلة والتعطّل في الواقع العربي، ودفع نحو تفسير جديد يربط القرآن بالعلم والمعرفة والتقدم الاقتصادي، وجعلت من التخلف الاقتصادي والتنموي بمثابة الآفة الحقيقية، ودفعت نحو أهمية التفكير بالديمقراطية في إطار مشروع التقدّم والنهضة، وليس منعزلاً أو منفصلاً عنه، كما أنّها (المدرسة الثقافية) كانت سبّاقة في لفت الانتباه إلى أهمية المجتمعات والجمعيات والعمل العام خارج إطار السلطة، وعدم تركّز النفوذ في مواقع السلطة السياسية، وهي حججٌ تزداد أهمية وقوة اليوم بعد انتشار وسائل التواصل، وإعادة تعريف المجال العام والقوى الفاعلة لتدخل القوى المدنية إلى قلب الملعب السياسي.
أعكفُ حالياً على مراجعة رسالة الدكتوراه التي كتبتها عن الفكر الإسلامي، لتنقيحها وإعادة نشرها، وقد تناولت فيها أعلام المدرسة الثقافية ومقولاتها وقارنتها بالمدارس الأخرى. وإذا كانت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ثم الثانية والدولة القُطرية قد أضعفت حضور المدرسة الثقافية في التفكير والخطاب العربي – الإسلامي المعاصر، فإنّ ما يحدُث اليوم من مظاهر التفكّك الأخلاقي والانهيارات المجتمعية والحروب الداخلية ومشكلات الإسلام السياسي في السلطة وترميم السلطوية العربية جميعاً تعزّز إعادة قراءة (ومراجعة) الأطروحة الثقافية وأهميتها، مع التأكيد على أنّ ذلك لا يتناقض مع الكفاح السياسي ضد الاستبداد.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”