شدوى الصلاح
يحق لأي دولة متى استشعرت وجود تهديد أمني عليها، أن تقطع علاقاتها الدبلوماسية في استخدام لأداة “مشروعة وقانونية” وفق المواثيق الدولية، وهي وسيلة ضغط فعالة تدفع الدولة المهددة لأمن الأخرى للتراجع عن أفعالها واللجوء للموائمات السياسية؛ وهو ما لم تفعله الإمارات حين قصفتها إيران عبر جماعة الحوثي باليمن -بحسب اتهامها رسمياً-.
ويستخدم الحصار الاقتصادي والمقاطعة التجارية والسياسية أيضا كأسلحة ضغط ناجحة وفعالة تلجأ لها الحكومات لفرض وجودها وتحقيق أهدافها، خاصة مع الدول التي لا تعترف إلا بالمال والمصالح الاقتصادية وتتجاهل الحقوق والحريات؛ وسبق أن أشهرته الإمارات في وجه جارتها قطر حين فرضت عليها حصارا استمر ثلاث سنوات ونصف.
وإذا كانت كل الإجراءات السابق الإشارة إليها هي آليات ووسائل ربما تقضي إلى تعكير صفو العلاقات الدولية في وقتٍ تسعى فيه الإمارات إلى تصفير مشاكلها خاصة مع إيران، فهناك إجراءات قد تكون أقل حدة وخطورة، منها طرد المبعوث المتواجد لديها، أو استدعاء سفيرها وخفض التمثيل الدبلوماسي دون الحاجة إلى قطع العلاقات؛ لكنها لم تتخذ حتى هذا الإجراء.
وسبق واستعملت إيران هذه الآلية مع الإمارات، في أبريل/نيسان 2010، حين استدعت القائم بأعمالها، بسبب حرب كلامية بشأن الثلاث جزر الإماراتية المحتلة إيرانيا منذ 1971، والتي تؤكد طهران تبعيتهم لها وليس احتلالهم؛ واستدعته أيضا في سبتمبر/أيلول 2019، إثر تأييد مسؤولين إماراتيين لهجوم الأهواز على عرض عسكري في طهران.
وفي يونيو/حزيران 2019، استدعت طهران القائم بأعمال الإمارات احتجاجا على سماح أبوظبي بإطلاق طائرة أمريكية بدون طيار من قاعدة عسكرية على أراضيها نحو إيران وتمكنت الأخيرة من إسقاطها؛ وفي أغسطس/آب 2020، استدعت خارجية إيران سفير الإمارات إثر مقتل إيرانيين بنيران خفر السواحل الإماراتية.
ذلك التصعيد الدبلوماسي الإيراني تجاه الإمارات لا يقابله مواقف مماثلة، فرغم نظرة أبو ظبي للحوثي بأنه أداة إيرانية مسلوبة الإرادة السياسية، إلا أنها لم تتخذ خطوات تصعيدية فعلية ضد طهران رغم وصولها لعمقها الداخلي، عبر هجوم نفذه الحوثي في 17 يناير/كانون الثاني 2022، بطائرات مُسيرة وصواريخ على أبوظبي؛ أسفر عن مقتل 3 أشخاص وجرح آخرين.
ونتج عنه انفجار 3 صهاريج نقل محروقات بترولية في منطقة مصفح آيكاد 3، بالقرب من خزنات أدنوك، إثر حريق وقع في منطقة الإنشاءات الجديدة قرب مطار أبوظبي الدولي؛ وكرر الحوثي القصف في 24 يناير/كانون الثاني، دون خسائر، وقابلت الإمارات ذلك باتهام الحوثي باستهداف مناطق ومنشآت مدنية على أراضيها، معلنة “احتفاظها بحق الرد”.
وكانت المرة البارزة التي اتخذت فيها الإمارات موقفًا قويًا تجاه طهران في يناير/كانون الثاني 2016، حين استدعت سفيرها هناك وقررت خفض تمثيلها الدبلوماسي على خلفية التدخلات الإيرانية في الشأن الداخلي الخليجي والعربي، في خطوة تلت إعلان السعودية والبحرين قطع علاقاتهما مع إيران.
وفي أعقاب القصف الحوثي الأخير، دعت الإمارات مجلس جامعة الدول العربية، لجلسة طارئة، عُقدت بمقر الأمانة العامة بالقاهرة الأحد 23 يناير/كانون الثاني 2022، على مستوى المندوبين، قال وزير الدولة الإماراتي خليفة شاهين المرر، خلالها إن “ميليشيا الحوثي تستمر في عدوانها على بلاده بسبب التدفق المستمر للأسلحة الإيرانية عليها”.
جاء اتهام الإمارات لإيران، في أعقاب مساعٍ لفتح صفحة جديدة بين البلدين، نتج عنها اتصال وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان، بنظيره الإماراتي عبدالله بن زايد، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وتبعه زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد لإيران، في ديسمبر/كانون الأول 2021، لأول مرة منذ خفض دول الخليج علاقتها مع طهران في 2016.
وتقاطع التقارب الإماراتي الإيراني مع تصاعد وتيرة التقارب الإماراتي الصهيوني وتعمقه منذ توقيع اتفاقية أبراهام، للتطبيع في أغسطس/آب 2020 برعاية أمريكية، والذي تراه إيران حماقة استراتيجية ستكلف الدول المطبعة ثمناً، وهددت إيران حينها الإمارات مباشرة بأنها ستكون في دائرة الرد الإيراني حال أي اعتداء صهيوني عليها.
وما يبدو أن الإمارات فشلت في موازنة علاقاتها بين عدوتين، إذ تعتبر طهران تل أبيب أكبر عدو لها في المنطقة؛ فقد قالت كاثرين زيمرمان، الزميلة في معهد أنتربرايز الأمريكي ونيكولاس هيراس، نائب مدير وحدة الأمن في معهد نيو لاينز، في مقالها بمجلة فورين بوليسي، إن إيران تحاول معاقبة الإمارات باستخدام الحوثي في اليمن.
وأشارت إلى أن هجوم الحوثي على الإمارات له دلالة، خاصة أنه جاء في وقت تقوم فيه الدولة التي تعتبر مهمة في “اتفاقيات أبراهام”، إلى جانب المغرب والبحرين والسودان، بتعميق علاقاتها مع الكيان الصهيوني؛ لافتة إلى أن إيران حاولت مواجهة الاحتلال والاتفاقيات في كل الشرق الأوسط واليمن ليس استثناء.
وبعد الضربة الحوثية الأولى الدامية للإمارات، بعث رئيس وزراء الكيان الصهيوني نفتالي بينيت، لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، رسالة عرض فيها دعما أمنيا ومخابراتي لمواجهة هجمات الطائرات الحوثية المسيرة؛ وبحسب مركز البيان للدراسات فإن أبو ظبي تستفيد من التطبيع في الجانب الاستخباراتي والتقني مما ينعكس على طبيعة الصراع مع إيران.
الوقائع تثبت أن العرض الصهيوني ما هو إلا مكايدة لطهران، لأن تل أبيب تتعسف في منح أبو ظبي بعض الأسلحة بذريعة أنها قد تخل بالتوازن العسكري، فقد رفضت تزويدها بمنظومة القبة الحديدية التي تستخدم في اعتراض الصواريخ قصيرة المدى، ومنظومة العصا السحرية أو كما يطلق عليها “مقلاع داود” التي تعترض الصواريخ المجنحة.
وبذلك تسقط مبررات الإمارات بالتطبيع مع الكيان أملاً في الدعم الاستراتيجي لمواجهة إيران؛ وإذا كان التطبيع هو أحد وسائل أبو ظبي لحماية نفسها من الاعتداءات الإيرانية، فهي لم تُفعل باقي الوسائل الأخرى السابق الإشارة إليها لردع إيران واكتفت بتحركات دبلوماسية لتسجيل موقف مع استمرار تنفيس الغضب في الساحة اليمنية التي يروح ضحيتها أبرياء.
وذلك رغم أن اتهام الإمارات لطهران بتمويل الحوثي، يدل على يقينها بأن الضربات الأخيرة التي طالتها تمت بأوامر ومساعدات إيرانية، وهو ما دفع مراقبون لطرح تساؤلات عدة، أبرزها لماذا لا تقطع الإمارات علاقاتها التجارية والاقتصادية والأمنية مع طهران؟ خاصة أن المتحدث العسكري باسم الحوثي، نصح الشركات الأجنبية في الإمارات بمغادرتها.
وتذرع بأن الإمارات أصبحت دولة غير آمنة في أعقاب الاستهداف الحوثي لها، الأمر الذي يعني أن الاستهداف الاقتصادي أحد محركات المواجهة بين الطرفين؟، ولماذا لا تقطع الإمارات علاقاتها مع إيران وتوقف غسيل أموال الحرس الثوري، وتُغلق الشركات الإيرانية العاملة هناك، وتهدد بترحيل الإيرانيين مستخدمة كل أدوات الضغط الممكنة لردع إيران.
فبحسب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن دبي على وجه الخصوص، مهمّة بالنسبة إلى إيران بوصفها مركزًا لإعادة التصدير ومنفذًا للاقتصاد العالمي في عصر العقوبات الدولية ضد إيران؛ كما عملت طهران على بناء حضور اقتصادي مهم داخل الإمارات حتى باتت شريكًا تجاريًا مهمًا لها.
وأعلنت طهران في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن قيمة السلع الإيرانية المصدرة إلى الإمارات في غضون 11 شهرا مضت بلغت 4 مليارات و100 مليون دولار، مشيرة إلى أن الإمارات كانت ثالث أكبر دولة مستوردة للبضائع الإيرانية خلال الفترة نفسها بعد الصين والعراق.
ووفق مقال للباحثة والمتخصصة في الشأن الإيراني سمية عسلة، نشرته في أكتوبر/تشرين الأول 2020، في موقع مبتدأ الإخباري، فإن إيران لها في الإمارات استثمارات ضخمة وظفتها في المشاريع المائية في دبي لا تقل عن 20 إلى 25 مليار دولار سنويًا، وهناك 500 ألف إيراني يعيشون في الإمارات بينهم نسبة كبيرة من التجار ورجال الإعمال.
وأوضحت أن هناك 10 آلاف شركة إيرانية تعمل في الإمارات بشكل رئيسي في قطاع المواد الغذائية والمواد الخام والحديد والفولاذ والإلكترونيات؛ كما يمتلك رجال الأعمال الإيرانيين في الإمارات استثمارات تتجاوز الـ 200 مليار دولار، إضافة إلى أن قطاع الطيران بين الدولتين يشهد نشاطاً واضحاً.
وفي 2018، كشفت وكيل وزارة الخارجية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية في وزارة الخزانة الأمريكية سيجال ماندكار، أن الحرس الثوري الإيراني يستخدم أبوظبي كمركز لغسيل أمواله، معلنة عن تفكيك شبكة لتهريب العملة، كانت تنقل ملايين الدولارات إلى فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني.