كتب: عمر المرابط
مطالبةً بالحرية والكرامة، مناهضةً للفساد والاستبداد، قامت الثورات العربية التي مر عقد على اندلاع شرارتها. انطلقت على حين غرة من أهل السلطة والحكم والنفوذ في البلدان العربية، فاجأتهم، ولولا عنصر المفاجأة لما استطاعت إطاحة أنظمة شمولية قاسية، ولما أجبرت أخرى على أخذ إصلاحات سياسية عميقة، كما اضطرت غيرها إلى ردود فعل تباينت بين استعمال العصا والجزرة.
ولكن مهما قلنا ومهما اختلف التقييم، فإن أهم ما أحدثته الثورات العربية إشاعة الأمل في نفوس المواطنين العرب بإمكانية القيام بالإصلاح والتغيير، وانبعاث روح الكرامة في شعوب مقهورة، مرّ عليها زمان طويل، كانت لا تقدر فيه أن تنبسّ ببنت شفة.
من 2011 حتى 2021، مرَّ عقد مُرّ، انفرط فيه العِقد ولم يُحترم العَقد، كان عقدا مريرا خيّب الآمال، وترك وراءه مآسي كبيرة، لكنه حقق إنجازاتٍ كبرى، أهمها أنه سجّل للتاريخ انتفاضة الإنسان العربي الذي ثار ثأرا لكرامته، ورفع رأسه مناديا بحريته. أما انفراط العِقد، وهو، لمن يعرف خبايا الأمور، لم يكن إلا مجرد عقد تجميلٍ لأنظمةٍ تريد تجميل صورتها وتحسينها داخليا وخارجيا، فلم يأت فجأة كما تشكّل فجأة، فقد تناثرت لآلئه وحبّاته من شدّة الجذب والجر بين الفرقاء في كل بلد، ناهيك عن التدخلات الخارجية التي كانت بالمرصاد لكل المطالب التي تهدد مصالحها.
أما العَقد فمن الطبيعي ألا يحترم، لأنه لم يكن مبنيا على طيب خاطر، فالدولة العميقة التي اضطرّت للاختفاء والرجوع إلى الوراء حافظت على مواقعها، انطوت وانبطحت استرضاءً لا رضا، قبل أن تثب وثبتها وتنقض على فريستها مثل اللبؤة، ظن بعضهم أن الثورة لا رجوع عنها، وأن الشعب قال كلمته الفصل، وأن من ثار مرةً سيثور تتْرى، المرة تلو الأخرى، فأخطأ مرتين، الأولى عندما اعتقد أن مسار الإصلاح مُحصَّن آمن، والثانية عندما وثق في الكلام المعسول وآمن به، فخُدع وانخدع.
قد لا نجازف إذا قلنا إن سنة 2021 طوت، ولو إلى حينٍ، صفحة الربيع العربي، ولو لم تُطو حقا لما رأينا عودة مساراتٍ سياسيةٍ عفا عليها الزمن، ولما شاهدنا رجوع سياسات حكومية ترجع بنا القرن الماضي، ولما تجرّأ الحكام على اتخاذ قراراتٍ مرفوضة شعبيا، بل وغير مقبولة دوليا، غير آبهين ولا مكترثين إلا بمن يملك قوة الإعلام والمال والسلاح، خصوصا مع الملل والسأم الذي ضرب الشعوب وهي ترى تحوّل الربيع إلى خريفٍ تضرب رياحه العاتية بلدانا قيل إنها كانت آمنة مطمئنة، ولو تحت القهر والطغيان، وقيل للشعوب أن اختاروا بين الفتنة والدمار أو الأمان والطمأنينة، وكأن الحرية والديمقراطية صنوان للأوليين متعارضتان مع الأخيرتين.
وهكذا تبخر حلم التحرّر والازدهار الذي ساور عديدين من مواطني بلدان العالم العربي، وانتصر الفساد والاستبداد.
لقد استطاع النظام العربي، في مجمله، أن يحقق وحدة المصير السياسي بسيادة نموذج حكم الرجل القوي المستبد، باعتباره النموذج الأمثل لبلدانٍ قد تتجزأ أو تتقاتل في ظل حريةٍ غير منظمة، وفي ظل ديمقراطيةٍ غير مؤطّرة، وفي ظل فساد مالي مستشر، وفي ظل تهديد تطرّف ديني قابع، لا ينكره إلا المتطرّفون وأمثالهم.
دارت الأيام، وعاد المواطن العربي إلى حقبة الماضي سياسيا، ورحل الإسلاميون عن الحكم، وذهبوا من دون أخونة الدولة ولا خيانتها، بل كانوا أكبر حلفائها وصمّام أمانها، حتى هدأت الزوبعة، تحالفوا مع من خانوهم وخذلوهم، وساندوا من ارتدّ عليهم واستعملهم، تنازلوا حتى أنهم غيروا مواقفهم في شؤونٍ كبرى، وتخلّوا عن مواقعهم في مراكز شتّى، ظنا منهم أنهم بذلك سيكسبون ثقة الآخرين ووُدّهم، لكن لا التنازلات شفعت لهم، ولا هي أبقت رصيدهم لدى مواطنيهم، تنازلوا ليبقوا فخسروا، ولو لم يتنازلوا لبقوا حتى ولو خسروا، لأن الأحزاب السياسية قد تخسر الانتخابات وتعود، لكنها إذا فقدت جوهر ما كانت تدافع عنه لن تعود. وهذا ما حصل تحديدا للأحزاب الاشتراكية في المغرب أو فرنسا، على سبيل المثال، تخلت عن مبادئها الكبرى، فتخلى مناصروها عنها من دون رجعة.
وفي هذا عبرة لمن نادى بالحرية والكرامة، وناهض الفساد والاستبداد، ودعا إلى الديمقراطية واحترام إرادة الشعب، كان عليه أن يضع خطوطا حمراء لا يهبط دونها، وإلا فقد رأسماله ورصيده من الثقة والاحترام، وهذا ما وقع لبعضهم، أصبح حالهم حال المنبتّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
مع هذا، يبقى الأمل هو الحل، ولا يمكن للمرء إلا أن يظن خيرا ويتفاءل، يسدّد ويقارب من أجل تحسين الأوضاع وتهيئة الظروف لمواصلة الإصلاح، جاعلا نصب عينيه المصالح العليا والمقاصد الكبرى للبلد. وهذا لا يتأتّى إلا بمتابعة النضال واستمرار الكفاح بأرقى الطرق الحضارية وبالقيام بواجب التوعية، إنه التدافع من أجل مستقبل أفضل.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”