كتب: هشام ملحم
يصادف يوم الخميس، السادس من يناير الذكرى الأولى لاجتياح مبنى الكابيتول من قبل مئات المتطرفين والعنصريين المؤيدين للرئيس السابق دونالد ترامب، في أخطر تحد سافر للديمقراطية الأميركية ومفهوم الانتخابات النزيهة منذ الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف. وسوف ينظم الديمقراطيون وقفات احتجاجية يحملون فيها الشموع، بينما سيعقد ترامب مؤتمرا صحفيا في فندقه في مارا لاغو، فلوريدا حيث سيدافع عن أنصاره، ويكرر ادعاءاته و “الكذبة الكبرى” بأن الرئيس بايدن والديمقراطيين قد “سرقوا” منه الانتخابات.
وتأتي الذكرى الأولى على خلفية اقتراب لجنة التحقيق التي نظمها مجلس النواب في شهر يونيو الماضي، لتنظر في خلفية وملابسات وأبعاد الاجتياح، من البدء في وضع تقريرها وتنظيم جلسات استماع علنية. وكانت اللجنة قد حققت مع أكثر من 300 شخص وأصدرت أكثر من 40 شهادة استدعاء لأفراد معنيين بالاجتياح ومطالبتها – وحصولها – على آلاف الوثائق الرسمية وغير الرسمية بما فيها الرسائل الإلكترونية وسجلات الاتصالات الهاتفية بين مشرّعين جمهوريين والرئيس السابق ترامب، ومدير البيت الأبيض آنذاك مارك ميدوز، خلال الساعات التي جرى فيها الاجتياح.
ولا تزال الاستقطابات السياسية والجروح الثقافية والاجتماعية التي أوصلت البلاد إلى ذلك اليوم العصيب قبل سنة، مفتوحة وعميقة كما كانت في ذلك اليوم البارد، لا بل يرى بعض المحللين أنها ازدادت عمقا وتعقيدا وهي مرشحة لتصعيد نوعي أخطر مع اقتراب معركة الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر المقبل، التي يسعى ترامب إلى تحويلها إلى استفتاء حول مستقبله السياسي كمرشح محتمل لمنصب الرئاسة في 2024.
وخلال السنة الماضية نجح ترامب وقادة الحزب الجمهوري في معظم الولايات التي يسيطر الجمهوريون على مجالسها التشريعية المحلية إلى تعديل أو تغيير قوانين الانتخابات لصالح الجمهوريين من خلال إعادة رسم حدود المقاطعات الانتخابية، وخلق العقبات الإدارية والتنظيمية ضد مشاركة الشرائح الاجتماعية والأقليات التي تصوّت تقليديا للمرشحين الديمقراطيين.
استطلاعات الرأي التي أجريت في الأيام والأسابيع الماضية رسمت صورة داكنة للانقسامات السياسية في المجتمع الأميركي ليس فقط حول مستقبل البلاد، بل حول هويتها وكيف تنظر إلى نفسها وإلى دورها في العالم. وأظهر استطلاع لصحيفة “واشنطن بوست” أن 34 بالمئة من جمهوريين ومستقلين يقولون إن استخدام العنف ضد الحكومة يمكن في بعض الحالات أن يكون مبررا، وهذه النسبة أعلى من كل النسب التي أظهرتها استطلاعات الرأي في العقدين الماضيين. وفي استطلاع لشبكة التلفزيون “سي بي أس” إن 68 بالمئة من الأميركيين يرون أن اجتياح الكابيتول هو “مؤشر حول ازدياد العنف السياسي، وليس حدثا معزولا”. وهذا التقويم يعكس مخاوف العديد من الأميركيين الذين ينظرون بقلق إلى المعارك الانتخابية المقبلة والخطر المتزايد الذي تواجهه الديمقراطية الأميركية. ويرى 12 بالمئة من الأميركيين أن على ترامب أن يعمل على استعادة منصبه الرئاسي الآن، وأن لا ينتظر إلى سنة 2024، ويدعو ثلث هؤلاء إلى استخدام القوة لتحقيق هذا الهدف. صحيح أن هذا يعني الحديث عن بضعة ملايين اميركيين فقط، ولكن الذين اجتاحوا مبنى الكابيتول واستخدموا العنف وزعزعوا أسس الديمقراطية الأميركية كانوا أقلية عددية لم تتجاوز المئات.
وحتى تسمية ما حدث لمبنى الكابيتول قبل سنة هو موضع خلاف عميق. وبينما يصف 85 بالمئة من الديموقراطيين اجتياح الكابيتول على أنه “عصيان” من قبل متمردين حاولوا “الإطاحة بالحكومة”، يصف 21 بالمئة فقط من الجمهوريين الاجتياح بأنه “عصيان”، كما ترى أكثرية من الجمهوريين (56 بالمئة) أن الذين اقتحموا الكابيتول كانوا مدفوعين بمشاعر “الدفاع عن الحرية”، بينما رأى 47 بالمئة منهم أن دافعهم الأساسي كان إيمانهم “بالوطنية”. وبينما رأى 59 بالمئة من الأميركيين أن دونالد ترامب كان مسؤولا بالدرجة الأولى أو إلى حد ما عن اجتياح الكابيتول، إلا أن استطلاعات الرأي تبين أيضا أن 59 بالمئة من الأميركيين وجهوا اللوم إلى وسائل الإعلام التقليدية، بينما رأى 66 بالمئة منهم أن المسؤولية تقع على وسائل الاتصال الاجتماعي، في مؤشر حول الأثر الكبير لوسائل الاتصال الاجتماعي على اتجاهات الناخب الأميركي.
تبين معظم الدورات الانتخابية في العقود الاخيرة أن الحزب الذي يسيطر على البيت الأبيض يخسر أول انتخابات نصفية يواجهها، وهذا “التقليد” والتغييرات التي فرضها الجمهوريون على القوانين الانتخابية في الولايات التي يسيطرون على مجالسها التشريعية، تفسر توقعات العديد من المراقبين باستعادة الحزب الجمهوري السيطرة على أحد مجلسي الكونغرس وربما المجلسين معا في انتخابات نوفمبر المقبلة. مثل هذا النجاح سوف يشجع دونالد ترامب على ترشيح نفسه مرة أخرى لمنصب الرئاسة. هذه الاحتمالات تفسر القلق العميق الذي يساور ليس فقط قادة الحزب الديمقراطي، ولكن أيضا جميع الأميركيين المعنيين بمستقبل النظام الديمقراطي الأميركي، الذي صمد، ولكن بصعوبة في وجه التحدي الخطير الذي فرضه ترامب وظاهرته السياسية على البلاد في السنوات الخمسة أو الستة السابقة.
ويرى المتخوفون على مستقبل الديمقراطية في أميركا أن نجاح الجمهوريين في التشكيك بنزاهة وشرعية الانتخابات سوف يعمق أكثر من الشكوك الموجودة أصلا في أوساط عدد متزايد من الأميركيين بأن الديمقراطية ليست النظام الأمثل والأفضل للولايات المتحدة. هذه النظرة المشككة بجوهر وجدوى النظام الديمقراطي تفسر الإعجاب المتزايد في أوساط الجمهوريين الأميركيين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين “القوي” كما يصفه هؤلاء. هؤلاء يصفون دونالد ترامب أيضا بأنه كان رئيسا “قويا” بعكس الرئيس بايدن، وقبله الرئيس الأسبق باراك اوباما. وكانت استطلاعات الرأي قبل القمة التي عقدها بايدن مع بوتين في الصيف الماضي قد أظهرت أن نسبة متزايدة من الجمهوريين – وأيضا في وسائل الإعلام المحافظة – تنظر بإيجابية إلى بوتين وإلى دور روسيا في العالم، وهذا الموقف يتناقض كليا مع مواقف الحكومات والقادة الجمهوريين في الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا الإعجاب الجمهوري بالنموذج “الأوتوقراطي” للرئيس، يعود إلى حد كبير لتأثير ونفوذ ترامب على قاعدة الحزب الجمهوري مع ما يعنيه ذلك من تحد سياسي وفكري جدي لنظام الحزبين وللتبادل السلمي للسلطة في أعقاب انتخابات نزيهة وحرة.
هذا بعض من التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة وهي تستحضر ذكرى اجتياح الكابيتول قبل سنة، وتنظر بقلق وتخوف إلى الانتخابات النصفية بعد أقل من سنة، وكأن أميركا تنظر إلى ماضي الأيام الآتية.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”