كتب: وائل قنديل
كل معتقل أو سجين سياسي في زنازين نظام عبد الفتاح السيسي، منذ العام 2013، هو مستحق للحرية وجدير بها، بل وبريء من كل ما يُكال له من تهم، بصرف النظر عن لون بشرته الأيديولوجية، يستوي في ذلك الذين يتذكّرهم ويطلبهم بالاسم زعماء العالم الصفيق، أو الذين لا يأتي على ذكرهم أحد.
وعلى ذلك، نسعد ونتنفس الصعداء قليلًا، كلما استرد واحدٌ من هذه الآلاف المؤلفة من السجناء والمعتقلين حريته، حتى لو كانت هذه الحرية منقوصةً، أو مهانةً، أو مشروطة بقواعد سوق السياسة الدولية وصفقاتها وتفاهماتها.
وبقدر ما نفرح لتحرير رهينة من الرهائن، فإننا نأسف لما انحدرت إليه الحرية، من قيمة مطلقة وحق أصيل لكل إنسان خلقه الله، إلى سلعة تُباع وتشترى وتخضع لقوانين السوق بمزايداتها ومناقصاتها وأدواتها السرية والعلنية، حتى باتت حياة المواطن مرهونةً بحجم الضغوط التي يمارسها طرف، دولي أو إقليمي، على السجّان، وأيضًا حجم استجابة السجّان لما يطلبه الطرف الذي تهمّه حرية شخص أو مجموعة أشخاص.
نشعر بالأسى، أيضًا، على قيمة العدل التي صارت تستورد من الخارج في أضيق نطاق، ولا تنبت أو تنمو أو تحيا في أرض الداخل، لتصبح، هي الأخرى، خاضعةً لقوانين البورصة العالمية.
في ظل هذه الأجواء، نجحت التدخلات الفرنسية في تحرير الرهينة، رامي شعث، من المعتقلات المصرية، بعد استجابة الجنرال السيسي لرغبة المسيو إيمانويل ماكرون، بعد عمليةٍ أسفرت عن تجريد الرهينة من جنسيته المصرية، ثمنًا للتمتّع بحريته في بلاد أخرى، غير التي ولد وتربى فيها، وعلى أرضٍ أخرى غير التي عاش عليها.
يتحدّثون عن خروج رامي شعث، مصري الجنسية، المولود في مصر، وابن وزير الخارجية الفلسطيني السابق نبيل شعث، من المعتقل، حيث أمضى عامين ونصف العام في الحبس الاحتياطي، مثله مثل عشرات الآلاف من المواطنين، ليوضع جبرًا على الطريق إلى باريس، حيث تنتظره زوجته الفرنسية، بعد أن تنازل عن جنسيته المصرية.
لم يقل لنا أحدٌ لماذا اعتقل، ولماذا حبس احتياطيًا كل هذه الفترة، ولماذا أخلوا سبيله وسمحوا له بالسفر .. لم نسمع من السلطات المصرية تبريرًا لماذا أفرجت عنه من أجل عيون فرنسا والسيد ماكرون، بينما رفضت تدخلات السلطة الفلسطينية ومناشداتها المستمرة .. كل ما وصل إلينا هو أن السيد محمد أنور عصمت السادات، الوكيل الحصري لصفقات إخلاء السبيل، ذات الأبعاد الدولية، أعلن عن توجهه بالشكر “إلى النيابة العامة، ووزارتي الخارجية والداخلية وأجهزتها، والسفارة الفرنسية بالقاهرة، والسلطة الفلسطينية، ورئيسة مجموعة الصداقة الفرنسية المصرية”.
أنت هنا بصدد معادلةٍ جديدةٍ للعدل وحقوق الإنسان في مصر مضمونها هو: اخلع وطنك حتى تستطيع أن تتدثر بالحرية في مكان آخر تحكمه سلطةٌ لها تأثير على السلطة في وطنك الأصلي.
هذه المعادلة رأيناها مبكّرًا في حالة الشاب محمد سلطان، سجين “رابعة العدوية” السابق، وابن سجينها الحالي صلاح سلطان، حين اشترطوا، لإطلاق سراحه وترحيله إلى الولايات المتحدة، تجريده من جنسيته المصرية، وهو ما تكرّر مع الناشطة آية حجازي، في سنوات سابقة، ثم رأينا مجموعة من المفرج عنهن حديثًا ينتقلن إلى فرنسا بعد حصولهن على المواطنة الشرفية من عمدة باريس.
هذا التكريس لفكرة أن لا حرية ولا عدل للمواطن المصري في بلده، ليس أسوأ ما يشوّه المفهوم الجديد للحرية، بوصفها سلعة، إذ تزداد الصورة قتامة وكآبة، حين يجري الإعلان عن دخول التسريبات المتعلقة بالفساد والفضائح الأخلاقية القادمة من دهاليز النظام الحاكم، ضمن سلة العملات المتداولة في السوق، حيث يمكن استخدامها وسيلةً للإفراج عن معتقلين، مقابل السكوت وعدم إذاعة حصيلة التسريبات.
أي بؤسٍ يجرفنا إلى قاع المأساة الإنسانية والأخلاقية، حين تصبح حريات المواطنين وحقوقهم في العدل والإنصاف موضوعًا للمجاملات وشراء الخواطر وتمرير الصفقات بين الحكام؟.
في أزمنة مضت كان الحكام يتهادون بالقطع الأثرية والمقتنيات المتحفية، المملوكة للشعوب، والآن دخلنا زمنًا حزينًا يتهادون فيه بقرارات الإفراج وإخلاء السبيل للمحكومين الذين يودعون سجون الوطن إلى غربة المنفى.
يحدث ذلك كله على بعد عشر سنوات فقط من ثورةٍ أبهرت العالم بأهدافها وأحلامها في العيش بحرية وكرامة إنسانية، فلا ندري هل نفرح بتحرير شخص أو بضعة أشخاص جديرين بالحرية، أم نحزن على الحرية التي انهارت قيمتها وتدنّت مثل عملةٍ منقرضةٍ في بلادنا؟.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”