كتب: هاني الكنيسي
ثار جدل عربي بطابع “شعبي” أشبه بمباراة بين فريقين (ساحتها منصّات الإعلام والسوشيال ميديا)، عندما أعلنت دولة الإمارات تعديل العطلة الأسبوعية إلى السبت والأحد، وتقليص العمل يوم الجمعة إلى منتصف النهار احتراما لوقت الصلاة التي قرّرت أيضا توحيد موعد إقامتها وخطبتها عند الواحدة والربع ظهرا طوال العام. أثنى المؤيدون على القرار باعتباره ضرورةً لمجاراة نسق الاقتصاد العالمي وخطوة أخرى على نهج التغيير و”التحديث” الذي بدأته حكومة أبوظبي منذ سنوات على استحياء، ثم ما لبث أن تسارعت خطاه وارتفع صخبه على جميع الصُعُد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في الأعوام الأخيرة. ورآه المعترضون تقليدا أعمى للثقافة الأوروبية (المسيحية) يضرب بالقيم الإسلامية والتقاليد العربية عرض الحائط، ويرسّخ المخاوف لدى المجتمع الخليجي المحافظ، من توجهات “علمنة تحرّكها أجندة صهيوأميركية”، خصوصا مع تواتر مظاهر التطبيع الشامل مع إسرائيل منذ توقيع “اتفاق ابراهام” في سبتمبر/ أيلول 2020 في واشنطن.
لم يكد يهدأ زخم الجدل بشأن العطلة الأسبوعية، حتى نشب جدلٌ “إعلامي” جديد (لم يصل بعد إلى مستوى التأجج الشعبي أو التناكف السياسي، ربما لطبيعته الخاصة ولندرة المتداول عنه) بشأن مشروع قانون جديد، يكسر “الاحتكار العائلي التقليدي” للتجارة وبيع السلع المستوردة في الإمارات. بدأ الخبر “تسريبا صحافيا” في تقرير لصحيفة فايناننشال تايمز البريطانية قبل بضعة أيام، والتقطته بسرعة وسائل إعلام غربية وعربية (كل يطرحه من منظوره)، قبل أن تضطر حكومة الإمارات لدخول المشهد، استباقا لحرب شائعات ولاحتمالات تهييج للرأي العام، ببيان شديد الاقتضاب من وزارة الاقتصاد، يقول “إن مشروع قانون الوكالات التجارية الجديد لا يزال في مراحل دورته التشريعية حسب الآلية المتبعة بالدولة لإصدار واعتماد القوانين”، من دون الإفصاح عن أي تفاصيل بشأن بنوده أو جدوله الزمني.
القانون إن (وحين) يدخل حيز التنفيذ سيكون بمثابة خطوة جريئة أخرى تبدو، في ظاهرها، نقلة على درب الانفتاح الاقتصادي وتحرير الأسواق في إطار عملية “التحديث والإصلاح الشامل” التي يقود قاطرتها بحماس رجلها القوي وولي عهد أكبر إماراتها وأثراها (أبوظبي)، محمد بن زايد، ويعاونه بتصرف نائب رئيس الدولة وحاكم أشهر إماراتها (دبي)، محمد بن راشد. لكنها تحمل، في جوهرها، تحدّيات تهدّد أحد ركائز “عقد اجتماعي” مستمد من بيئةٍ قوامها تقاليد النظام القبلي وولاء العائلات الممتدة. عقد ارتضاه الحاكم والمحكوم منذ تأسيس اتحاد الإمارات السبع في 1971، وتطوّرت بنوده غير المكتوبة بتوفير “امتيازات حمائية” تؤمن لـ”المواطن” أو “العوائل” عوائد سخيّة سهلة، برّرتها ثروة نفطية هائلة، جلبت معها انتعاشا اقتصاديا وازدهارا تجاريا تنافست شركات عملاقة وصغيرة من أنحاء العالم على الاغتراف من خيراته، فتعايشت مع “قواعد اللعبة” في السوق الإماراتي.
ليس من أهداف هذا المقال تحليل أجندات أيديولوجية متباينة، أو الغوص في اشتباك بين عقليات وتوجهات سياسية متنافرة، أو تقييم حجج مجتمعية واستشهادات دينية متعارضة، تعكس في مجملها صورة ما يدور في عديد من دول المنطقة التي تعيش، منذ اندلاع ما تعرف بثورات الربيع العربي، صراع تحوّلات جذرية ومخاض ولادة مشهد جديد بقواعد مستحدثة، تصل، في غرابتها، أحيانا إلى حد الشك في إخلاص النيات وفي سلامة النظر. وبالتأكيد، ليس من أهداف المقال تقييم مستجدات سياسة الإمارات في مرحلة ما بعد عهد مؤسّس اتحادها وحاكمها الأشهر وأبيها الروحي، زايد بن سلطان، الذي ركّز على بناء الاقتصاد وتوظيف ثروة بلاده النفطية في تحديث بنيتها التحتية وتحقيق رفاهية معيشة مواطنيها مع تباهيه بالحفاظ على موروثات التقاليد البدوية، وانتهج مبدأ الحياد تجاه الأزمات الإقليمية والدولية والوسطية المسالمة في سياسته الخارجية مع تمسّكه المعلن بمبادئ “العروبة”، خصوصا في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي (تُذكر له باستمرار مقولته “إن النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي”، حين قطع إمدادات النفط عن الغرب في أثناء حرب أكتوبر 1973)، إلى أن توفي في 2004، وخلفه ابنه الأكبر خليفة، حاكم أبوظبي ورئيس الدولة.
وإذا كانت وفاة “الوالد”، المشهود له بالحصافة والاعتدال، نقطة تحوّل في تاريخ الإمارات التي أكملت بالكاد نصف قرن من عمرها، فالواضح أن جيل الأبناء “الطموح حد الجموح” عازم على خوض مغامرة التغيير الشامل، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بعقلية مختلفة، لا تبالي بتحطيم أي موروثات، وبروح “فتية” تتحدّى العواقب والتكهنات.
ولذلك، إن كان هذا المقال يركّز على رصد مغزى التشريع المقترح وأبعاده باعتباره مثالاً بيّناً لجرأة الدولة “الجديدة” في تحدّي ما كان يصنف، إلى وقت قريب، تحت فئة “التابو” أو المناطق المحظورة، فإنه يتوخّى استحضار (واستعراض) ما يرجو الكاتب أن يكون مفيدا في فهم “سياق” تعديلات متلاحقة، أشبه بتحديث “ثوري” يجتاح منطقة الخليج “العربية” منذ بضع سنوات، وتتجلّى ملامحه في خطوات “راديكالية” تخطوها بثقة دولةٍ تتربع على عرش “مؤشّر السعادة والرفاهية” عربيا وإقليميا، وتحتل المكانة الرابعة عالميا في حصة الفرد من الثروات (بنصيب يتجاوز 800 ألف دولار لكل مواطن، حسب تقرير البنك الدولي).
ذكرت “فاينانشال تايمز”، في تقريرها، إن الحكومة الإماراتية أبلغت بعض أكبر العائلات المالكة لوكالات تجارية بأنها تدرس قانونا ينهي “التجديد التلقائي” لاتفاقيات التوكيل الحالية، ما يمنح الشركات الأجنبية نوعا من المرونة لتوزيع سلعها الخاصة، أو تغيير وكيلها المحلي عند انتهاء العقد. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين إماراتيين إن هذا الإجراء يأتي في إطار محاولات “جذب المستثمرين”، ماضيةً في تحليلها إلى أن التعديلات المقترحة التي “تنهي عقودا من حماية المصالح المحلية في مواجهة الكيانات الأجنبية، ستؤثّر على الوشائج بين الحكومة والعائلات التجارية “النافذة”، مثل عائلات الفطيم، والرستماني، وجمعة الماجد”. والأسماء التي ذكرتها الصحيفة الاقتصادية العتيدة، على سبيل المثال، للبيزنس العائلي المتجذّر في الإمارات، غيض من فيض مجموعات وشركات (بمختلف الأحجام والأنشطة التجارية)، تتملكها، غالبا بالوراثة، عائلات محلية أصيلة، وأخرى نزح أجدادها من شبه الجزيرة العربية ومن دول مجاورة واستقرت في الإمارات قبل تأسيس اتحادها أو بعده، وتشكل في مجملها نحو 90% من القطاع الخاص الذي يحتضن ثلاثة أرباع العمالة في الدولة. فحسب بيانات بعض الدوريات المهتمة بترتيب أثرى أثرياء الكون، تأتي “عائلات” إماراتية ضمن أغنى 50 كيانا عربيا في العالم؛ كالغرير (مالكة بنك المشرق)، والفطيم (المعروفة بسلاسل مراكز التسوق بثروة تعادل تسعة مليارات دولار)، وعائلة الحبتور (متنوعة الأنشطة العقارية والفندقية والتعليمية بثروة إجمالية تتجاوز سبعة مليارات دولار)، وعائلة قرقاش (صاحبة أكبر توكيلات السيارات الفارهة). ووفقا لتصنيف “قائمة هورون الدولية” لأثرياء العالم (عام 2020)، فإن 24 مليارديرا بثروات تعادل في مجملها 70 مليار دولار يقيمون في الإمارات، منها 27 مليار دولار هي قيمة ممتلكات وتجارة لسبع “عائلات”.
في كتاب “جذور الغضب: حاضر الرأسمالية في الشرق الأوسط” (طبعة إبريل/ نيسان 2020)، وفي إطار شرحه “المنهجي” كيفية تراكم رأس المال وتطوره في دول الخليج “تاريخيا” من مرحلة الاعتماد كليا على العوائد المباشرة لبيع النفط وتوزيعها على أفراد المجتمع وقبائله “بإرادة فردية ومطلقة من الحاكم” إلى منظومةٍ تعتمد على تنوع الأنشطة الإنتاجية والمالية، وتنتهج سياسة “السيطرة” على النشاط التجاري وإحدى أدواتها “التوكيلات”، يفسّر بروفيسور الاقتصاد السياسي في جامعة لندن، آدم هنية سطوة “البيزنس العائلي” على مقدّرات الاقتصاد غير النفطي في الخليج، فيقول إنه “مع انتقال تلك الدول إلى الاعتماد على العمال المهاجرين، بدأت تتشكل الطبقات الرأسمالية من قلب مجموعات عائلية كبيرة، تكوّنت من النخب التجارية المتحالفة مع الحاكم (تربطها غالبا صلات قرابة مباشرة). وباتت السيطرة على تجارة الواردات محورا مهما من محاور التراكم، فصدرت قوانين تطالب المورّدين الأجانب باعتماد شركات محلية كوكيل وموزّع لها. ومع نمو تجارة الواردات، أصبحت المجموعات التجارية الكبرى (العائلات مالكة التوكيلات) تمثل الطبقة الرأسمالية الخليجية”. ويعزو الكتاب صعوبة الفصل بين اقتصاد الدولة (الأسرة الحاكمة) في دول الخليج ورأس المال الخاص إلى “التواشج الشديد بين هذه الإمبراطورية العملاقة من الأعمال التجارية ومؤسسات الدولة ذاتها.. فهذه المجموعات (العائلية) تستفيد أيضا من العقود الخاصة بالحكومة ومن حقوق الوكالة وهبات الأراضي ومن المناصب الرفيعة في بيروقراطية الدولة”.
ولعل في ذلك ما يفسّر “عدم ارتياح” بعض ممثلي العائلات التجارية في الإمارات لمشروع الحكومة الجديد الذي سيلغي “عرف التوكيلات” المعمول به منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، فيحذّرون من مغبة “الاندفاع” في تغيير النموذج التجاري الراهن في وقتٍ يتعرّض فيه القطاع الخاص إلى ضغط من الدولة لتفعيل سياسة “التوطين” (توظيف مزيد من المواطنين الإماراتيين على حساب العمالة المستوردة الرخيصة)، فتنقل “فاينانشال تايمز” عن أحد المديرين التنفيذيين لمجموعة أعمال عائلية اعتراضه بنبرة غضب: “على الحكومة أن تفكّر مليا في علاقتها بالقطاع الخاص، خصوصا أنها تفرض علينا المزيد من المطالب”. والإشارة هنا إلى تعهد الحكومة الإماراتية بأن يشكل المواطنون 10% من موظفي شركات القطاع الخاص خلال السنوات الخمس المقبلة.
والواقع أن حكومة أبوظبي بدأت “فعليا” منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 موجة التغيير، عندما أصدرت مرسوما يتيح “لرواد الأعمال والمستثمرين الأجانب تأسيس الشركات وتملكها بشكل كامل”، كما ألغت شرط “الوكيل المحلي” للشركات الأجنبية التي ترغب في فتح فرع لها داخل الدولة. الأمر الذي سمح مؤخرا لشركات عالمية كبرى، مثل “آبل”، و”تيسلا” بولوج السوق الإماراتي وفتح فروع بيع من دون الحاجة للمرور عبر بوابة “الوكيل” (العائلي).
تدافع الحكومة الإماراتية عن تشريعها المثير لقلق عائلات الوكالات التجارية، من منطلق أنه سيكسر حلقة الاحتكار ويفتح السوق المحلي أمام الاستثمار الأجنبي، فتنخفض الأسعار للمستهلكين، وتنشط الدورة التجارية بشكل أفضل (أسعار بعض السلع والخدمات كالهاتف أعلى من نظيراتها في بريطانيا، على الرغم من التفاوت الرهيب في قدر الضريبة المضافة VAT بين البلدين، 5% في الإمارات مقابل أكثر من 20% في بريطانيا). ولكن آخرين ربطوا قرارات “تحرير السوق” الإماراتية المتسارعة أخيرا باضطرام المنافسة مع جارتها الأكبر، السعودية، التي أقدمت على سلسلة إجراءات “انفتاح” غير مسبوقة، أبرزها قرار “عدم منح عقود حكومية لأية شركة أجنبية يقع مقرّها الإقليمي في دولة أخرى اعتباراً من عام 2024”. وقد فُسّرت الخطوة (تأتي في سياق ثورة تغيير وتحديث يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان) بأنها ترمي إلى “انتزاع كعكة الشركات متعدّدة الجنسيات من الأسواق المنافسة وفي مقدمتها دبي”.
ولم يخفِ رجال أعمال (متوقع تضرّرهم من إلغاء “امتياز الوكيل المحلي”) تخوفهم من أن القانون الجديد، وبدلا من أن يستقطب الشركات الأجنبية ومتعدّدة الجنسيات، لتوسيع نشاطها التجاري محليا، فقد يتيح استحواذ كبار وكلاء دول مجلس التعاون الخليجي (وفي مقدمتهم السعوديون) على السوق الإماراتي. ويذهب الرئيس التنفيذي لمكتب “بيكر ماكنزي – حبيب الملا” للمحاماة في الإمارات، حبيب الملا، إلى المطالبة (في مقال نشره على موقع سي أن أن) بأن “يتضمّن مشروع القانون نصا يقضي بحظر ممارسة نشاط التوزيع في الإمارات على كل من يمتلك وكالة تجارية في المنطقة، بهدف ألا تتحول الوكالات التجارية من أيدي العوائل في الإمارات إلى أيدي الوكلاء التجاريين الآخرين في المنطقة الذين قد تكون أسواقهم أكبر وعلاقاتهم أرسخ”.
وبغض النظر عما يدور في بال الحكومة الإماراتية من أفكار واستعدادات، لاستيعاب ردة فعل غاضبة أو موجة “جدل” جديدة في الإعلام و”السوشيال ميديا” عند الشروع في تطبيق تشريعها الجديد، فإن “العائلات الحاكمة” في دولة الإمارات (آل نهيان في أبو ظبي، وآل مكتوم في دبي، والقاسمي في الشارقة، ومثيلاتها في عجمان والفجيرة وأم القيوين ورأس الخيمة) تدرك تمام الإدراك ما قد ينجم عن المساس بمصالح ما تسمى “عوائل التجارة” التي اعتاد أفرادها، عبر أجيال وعقود، جني عوائد سهلة ومضمونة تحت مظلة “حمائية” شيدها مؤسّسو الاتحاد عن وعي كامل بضرورتها لضمان “الولاء الشعبي” الذي يكفل شرعية استمرارها في الحكم. ذلك الولاء الذي ربما تحتاجه حكومة إحدى أغنى عشر دول من حيث الدخل القومي، أكثر من أي وقت مضى، لتأمين جبهتها ووحدتها الداخلية في خضم ما تجريه من عمليات “تحديث” متواترة و”صادمة” أحيانا، وفي مواجهة تحدّيات خارجية، خصوصا في محيطيها الخليجي والإقليمي، أجّجتها سياسة خارجية براغماتية وجريئة في “اندفاعها” صوب ما تراه “القيادة” ملائما لغاياتها وأجندة مصالحها.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”