كتب: مدى الفاتح
الدول الخليجية غير ممثلة في مفاوضات فيينا الحالية التي تهدف إلى إحياء الاتفاق النووي مع إيران، كما أنها لم تكن جزءاً من المفاوضات الرئيسة التي انتهت إلى الاتفاق الأول في العام 2015. وفي نظر الإمارات والسعودية فإن ذلك أحد أهم أوجه القصور في الاتفاق الذي كان يجب أن يشتمل منذ أول يوم على ضمانات واضحة بألا تسيء إيران استغلال انفتاحها الجديد على العالم، أو أن توظف ذلك في زعزعة المنطقة. واليوم تجادل طهران بالقول إن سياستها الخارجية ليست جزءاً من أي تفاوض، وكذلك الطريقة التي سوف تدير بها ما ستحصل عليه من أموال. وعلى الرغم من إصرار الإيرانيين على ترديد ذلك، والتذرّع بالسيادة الوطنية، إلا أن هذا المنطق يظل غير مقنع للأميركيين الذين يرون أن من الصعب التعامل مع إيران، في وقت ينظر فيه جيرانها إليها بريبة.
أوضح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي، أخيرا، رؤية بلاده في هذا الموضوع. ساند الموقف الإيراني الرافض إضافة أي بند عن “تحسّن السلوك”، معتبراً أنه يجب الرجوع إلى الاتفاق بصيغته التي تم التوافق عليها في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، أوباما. عاد لافروف واقترح حلا وسط لهذه الأزمة، معالجة إشكالية عدم الثقة عبر مؤتمر للأمن في المنطقة، يجمع بين إيران والدول الخليجية. وهذا ربما يكون أحد بنود ستجري مناقشتها مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في زيارته المرتقبة موسكو.
من أجل إرسال رسائل طمأنة، وليدفعوا عن بلادهم الريبة، وأيضاً لقناعتهم بالدور المهم الذي يمكن أن تلعبه دول الخليج، عقد المسؤولون الإيرانيون لقاءات رسمية ثنائية ومباحثات مع أكثر من بلد خليجي خلال الأسابيع الماضية. وكانت الدول الخليجية تؤكد أنها ترغب في علاقات طبيعية مع جارتها، وأن المطلوب فقط أن توقف إيران سياستها التخريبية، ومحاولاتها التدخل في شؤون جيرانها. هذا ما عبّر عنه المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، أنور قرقاش، حين قال: “لقد اتخذنا خطوات لتهدئة التوتّرات، إذ لا مصلحة لنا في المواجهة، حيث ستدفع المنطقة بأسرها ثمن هذه المواجهة لعقود قادمة”.
للأسف، لا تزال الثقة في إيران تبدو صعبة بالنسبة للجيران العرب، خصوصا السعودية التي تخوض معها إيران حرباً غير مباشرة في الميدان اليمني. وبالتوازي مع أجواء التفاوض، والحديث عن التطبيع الكامل للعلاقات، كان الحوثيون، من الأذرع المهمة للحرس الثوري في المنطقة، يكثفون هجماتهم الصاروخية على المملكة، باستخدام التقنيات الإيرانية، كما شهدت بداية شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، حادثة احتجاز سفينةٍ تحمل علم الإمارات بالقرب من شواطئ اليمن. ولم يتوقف التصعيد الحوثي عن ذلك، حيث عمد الأسبوع الحالي (17 يناير) إلى استهداف منطقة مصفح الصناعية ومحيط مطار أبوظبي، في سابقة جديدة تتجاوز السعودية، لتضع الإمارات في دائرة الضربات، ما يوحي بوجود تغيير في قواعد الاشتباك.
ويبقى سر استهداف الإمارات في هذا التوقيت غائباً، وإذا اتفقنا على أن إيران هي الراعية والمموّل الرئيسي للحوثيين، فقد لا يخرج الأمر عن أحد احتمالين، فإما أن تكون إيران قد قصدت إرسال رسالة عبر هذا الهجوم لتقوية موقفها التفاوضي في وجه تهديداتٍ توجّه إليها من الغربيين، أو أن تكون هذه المجموعة قد تصرّفت بشكل انتقامي فردي، رداً على خسائر واجهتها المليشيات أخيرا في منطقة شبوة اليمنية. وفي الحالين، لا يمكن لإيران التنصّل من مسؤوليتها، على الأقل أمام الشركاء المستقبلين المحتملين من دول المنطقة، والذين لا يفصلون بينها وبين أذرعها.
قد يكون مبدأ إظهار القوة وارداً، فقد تزامنت الجولة السابعة في نوفمبر/ تشرين الثاني، جولة استئنافية بعد ست جولات فاشلة في عهد الرئيس حسن روحاني، مع وصول وزير الدفاع الإسرائيلي، بني غانتس، إلى واشنطن. ومع الأخبار عن المناورات العسكرية المشتركة التي تحاكي ضرب منشآت إيرانية. في الوقت ذاته، كانت إيران تقوم بتهديدات مماثلة متوعدةً برد ساحق، وهي تعلن إجراء تدريباتٍ محاكيةٍ لقصف مفاعل ديمونة الإسرائيلي. والمشكلة أن هذا التصعيد يتناقض مع مبادرات حسن النية التي تعلنها إيران، والتي وصلت إلى حد السماح بتركيب كاميرات مراقبة في موقع كرج النووي، والالتزام بنسب التخصيب المتفق عليها بعد وصول هذه النسب إلى أكثر من 60% في الفترة السابقة. ولافت هنا أنه، على الرغم من انتهاء الأزمة الخليجية وبدء التأسيس لعلاقة استراتيجية بين دول مجلس التعاون، إلا أن الموقف من إيران، حتى الآن، لا يبدو موحداً، وهو ما تستغله الأخيرة من أجل تقوية شوكتها أو كسر عزلتها.
أما الاشتراطات التي وضعها المفاوض الإيراني على الطاولة، فتركزت، في المقام الأول، على الحصول على ما كان مقرّرًا لها سابقاً من فوائد مالية، وعلى ضرورة إلغاء العقوبات الاقتصادية والحظر التجاري، وهي نقاط أساسية بالنسبة لإيران، نظراً إلى الصعوبات التي تمرّ بها حالياً. المطلب الثاني هو السماح بحرية صناعة السلاح ما دون النووي. ثالث المطالب هو تعهد الأميركيين بالالتزام بما يتفق عليه، حتى لو تغيرت الإدارات أو السياسات الأميركية. يقول الإيرانيون عن ذلك إنهم يريدون ضماناً حتى لا يتكرّر التعقيد الحالي، والناتج بالأساس عن رفض رئيس جديد ما صادق عليه رئيس سابق.
بالإضافة إلى ذلك كله، تسرّبت معلومات عن إضافة المفاوض الإيراني شرط “التحقق” من رفع العقوبات. ذلك أيضاً لتفادي ما حدث إبّان توقيع الاتفاق بنسخته الأولى، حينما بدأت الشركات الأجنبية ورجال الأعمال بالتوافد على إيران، قبل أن يكتشفوا أن البنوك والمؤسسات المالية ما زالت تضع البلاد على لائحة عدم التعامل. وهذا يعني أن إيران لا تريد الاكتفاء بالإعلان عن رفع العقوبات، وإنما تسعى إلى التحقق، والتأكد من ذلك بشكلٍ يكفل ألا تكون هناك أي مفاجأة.
لأسبابٍ تتعلق بالأساس بأن نيات إيران ما تزال مشكوكاً فيها، فإن هذه المطالب تظلّ غير ممكنة التحقيق في الوقت الحالي، وهذا يجعل التفاوض محكوماً بالفشل، ما لم تظهر إيران شيئاً من التنازل، بأن تقبل بالحصول على بعض مطالبها في المرحلة الحالية، أو أن تقبل بمقترح الاتفاق المؤقت الذي يشمل فترة تجريبية مدة عامين للتحقق من الجدّية وحسن النيات.
تجعلنا هذه القراءة لا نعوّل كثيراً على ما يذهب إليه المحللون المتفائلون بقرب إحياء الاتفاق النووي بشكل مرضٍ، على طريقة صحيفة نيويورك تايمز التي عنونت قبل أيام “الولايات المتحدة وإيران تقتربان من الاتفاق النووي”. ببساطة، لأن أي إحياء يجب أن يتضمّن إثباتاً لحسن النيات الذي يجب أن يشمل، قبل أي شيء آخر، وقف الدعم الإيراني للمليشيات الحوثية، خصوصا وقد تحوّلت هذه إلى منصّة لإرسال رسائل إيرانية، وصارت مهدّداً لأمن المناطق المدنية في البر والبحر. ما لم يحدث ذلك، سوف تظل الدول الخليجية تتعامل مع إيران كمهدّد لأمنها، وعامل من عوامل زعزعة استقرار المنطقة. هذا سيعقد كثيراً حصول إيران على الصفقة النووية التي تحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”