كتب: مصطفى عبد السلام
حدث ما حذّر منه الكثيرون وتأخرت حكومة قيس سعيد في صرف رواتب الموظفين في تونس هذا الشهر، وسجلت رواتب نحو 700 ألف شخص تأخيرا كبيرا، إذ لم يتمكن هؤلاء من تحصيل أجور شهر يناير/كانون الثاني في مواعيدها المعتادة منذ سنوات طويلة، ولم يتلق موظفو قطاع التعليم، الأكثر عددا بين موظفي الدولة، رواتبهم حتى الآن، وهي سابقة لم تحدث من قبل.
ولأن الرواتب خط أحمر فقد تحركت النقابات العمالية بشكل عاجل من أجل إجبار الحكومة على الالتزام بالبرنامج الزمني الشهري لصرف المرتبات وعدم تحميل الموظفين تبعات التأخير، خاصة مع السياسة التمييزية التي تمارسها الحكومة، حيث تعطي الأولوية في صرف الرواتب إلى موظفي الوزارات السيادية، وهي الدفاع والداخلية والمالية والعدل.
ورغم تأزم الوضع فقد اكتفت الحكومة بتقديم تطمينات على لسان وزيرة المالية سهام بوغديري، والتي قالت اليوم الأربعاء إن الحكومة قادرة على دفع أجور الموظفين في القطاع العام كالعادة، كما أكدت أن الأجور ليست مهددة خلال الشهور المقبلة.
ورغم تلك الكلمات وزيادة التكهنات بطباعة البنك المركزي التونسي النقود لاحتواء الأزمة، إلا أن وزيرة المالية لم تقدم موعدا محددا لصرف الرواتب المتأخرة، ورمت الكرة في ملعب الدائنين الدوليين، إذ أكدت أنها تأمل في الوصول إلى اتفاق تمويلي مع صندوق النقد الدولي في شهر إبريل/نيسان هذا العام، لكن تطمينات الوزيرة لم تهدّئ مخاوف مئات الآلاف من الموظفين الذين لم يتلقوا رواتب شهر يناير حتى الآن، وتزايد المخاوف من تكرار هذا السيناريو في الشهور المقبلة.
لم يقتصر الأمر على تأخر الحكومة في صرف الرواتب التي تتم عادة بين يومي 18 و26 من كل شهر، بل فوجئ المتقاعدون من موظفي القطاع الحكومي باقتطاع صندوق التقاعد جزءاً من مرتبات يناير/كانون الثاني من دون إعلام مسبق.
وبسبب ردة الفعل الغاضبة على قرار الخصم من معاشات المتقاعدين فقد سارع الرئيس التونسي قيس سعيد بإصدار قرار يقضي بإلغاء الخصم.
بعيدا عن قصة الرواتب فإن الأمر بات أكبر من مسألة تأخر صرف الأجور، ويتعلق أكثر بهشاشة الدولة اقتصاديا وتعثرها المالي، وتراجع الإيرادات العامة، وتعثر الحكومة في إعادة الحيوية للأنشطة الاقتصادية الحيوية مثل السياحة والفوسفات في ظل أسوأ أزمة سياسية تعيشها البلاد وحالة استقطاب غير مسبوقة.
وبعد أن كان الحديث خافتاً عن مخاطر تهدد بإفلاس الدولة التونسية والتعثر في سداد التزاماتها، سواء للداخل في شكل أجور ودعم، أو للخارج في شكل أعباء وأقساط ديون، بات الحديث يتسع يوما بعد يوم عن تفاقم تلك المخاطر، وتزايد المخاوف من إفلاس الدولة في ظل الضائقة المالية الخانقة التي تمر بها البلاد، وعدم وجود حلول في الأفق القريب سوى الرهان على قروض من صندوق النقد الدولي بقيمة 4 مليارات دولار، قد لا تأتي إلا بشروط مجحفة قد تقود البلاد نحو المجهول.
قيس سعيد تخيل أنه بمجرد الانقلاب على الدستور والمؤسسات المنتخبة التي لا تروق له سيفتح له الداعمون كل الخزائن ليغترف منها مليارات الدولارات التي تؤهله لمنح المواطن المنّ والسلوى والرفاه والسلع المجانية والغذاء والوقود الرخيص والسكن المناسب والتعليم شبه المجاني.
لكن الواقع شيء آخر، فأموال الخليج لم تصل بعد وربما لن تصل، والرهان على مليارات صندوق النقد والبنك الدوليين صعبة المنال، إلا إذا طبق سعيد الفاتورة المعروفة والتي من أبرزها التضييق المالي على المواطن، وإدخال البلاد في موجة تضخمية وأزمة معيشية غير مسبوقة.
ولعله بدأ في هذا المشوار المعقد بالفعل حيث رفع سعر الوقود قبل أيام للمرة الرابعة خلال عام، كما بدأت حكومته خطوات تجميد رواتب القطاع العام، ثم خفض أجور الموظفين بنسبة 10% وتقليل المعاشات، كما تعتزم رفع أسعار الوقود والكهرباء وفرض ضرائب جديدة في العام الجاري 2022، وفق وثيقة للميزانية الحكومية تم تسريبها الشهر الماضي.
كما بدأت الحكومة تطبيق سياسة الاغتراف من جيب المواطن الفارغ أصلا، وزيادة الأسعار، وخفض الدعم لسد العجز في الموازنة العامة، وهي خطوات ستثير غضب رجل الشارع والنقابات العمالية القوية بما فيها اتحاد الشغل، وهي الحركات التي ترفض أي خفض في الأجور، وترى أن البديل هو إعطاء أولوية لمحاربة الفساد المستشري في البلاد.
ولذا فإنّ معركة قيس سعيد المقبلة لن تكون مع البرلمان المنتخب وحركة النهضة وأحزاب المعارضة والقضاء وغيرها من الفئات الرافضة تسلطه واستبداده، بل مع رجل الشارع الذي بدأ يتذمر من وعوده البراقة التي انطفأ بريقها بعد أن أخفق في اختبارات عدة، آخرها التأخر في صرف الرواتب.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”