كتب: ياسر أبو هلالة
صادف الأسبوع الماضي مرور 73 عاما على اغتيال مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا. ولا يزال النقاش دائرا في مصر والعالم العربي، إن كانت الجماعة ومؤسّسها ضحايا للإرهاب أو مؤسسين له. وفي ظل استقطابٍ يمجّد المؤسّس “الإمام الشهيد” وآخر يشيطنه كما في دراما مسلسل “الجماعة” داعية للعنف ومنظّرا له، ضاعت الرؤية الموضوعية التي تُنصف الرجل وتدين قتلته.
بعد أقل من شهر على ثورة يوليو (1952)، بادر الضباط الأحرار إلى إعادة محاكمة قتلة البنا، خصوصا أن معظمهم ارتبط بالجماعة وبايعها، لكن المحكمة ذهبت لاحقا ضحية خلاف جمال عبد الناصر و”الإخوان”، واقتصرت أحكامها على المستوى التنفيذي من الجُرمية التي وقف وراءها رئيس المباحث الجنائية، ولم تُحاكم النظام الذي اغتال معارضا بدون محاكمة.
في الواقع، لم يكن حسن البنا مجرّد داعية سلمي. كان تهديدا حقيقيا للنظام الموالي للإنكليز. وأسّس “النظام الخاص”، وهو جهاز عسكري سرّي كان أكثر الضباط الأحرار، ومنهم عبد الناصر، أعضاء فيه. وقتل هذا الجهاز القاضي أحمد خازندار ورئيس الوزراء محمود النقراشي. صحيحٌ إن البنا استنكر الاغتيال، واعتبر القتلة في بيان مكتوب “ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين”، إلا أنه يتحمّل مسؤولية الجهاز الذي أسّسه، وخرج عن سيطرته. وقد استمرّ هذا الخروج بعد مقتل البنا، فالضباط الذين قاموا بانقلاب/ ثورة يوليو لم يشاوروا قيادة “الإخوان” من قبل ومن بعد.
المفارقة أن النظام الخاص حوكم في العهد الملكي في القضية المعروفة باسم “السيارة الجيب”، وتشكّل تلك المحاكمة التي برّأت “الإخوان المسلمين” من العنف والإرهاب، على الرغم من ضبط الأسلحة والمتفجّرات في السيارة أقرب إلى مراجعة فكرية سياسية قانونية منصفة، دفعت رئيس المحكمة، المستشار أحمد كامل، إلى الانضمام للجماعة، بعد أصدار الحكم المخفّف على المتهمين وتبرئة أكثريتهم.
يقول نص الحكم عن المتهمين “ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة هي جيش الاحتلال… فاتحدت إرادتهم على القيام بأعمال قتل ونسف وغيرها، مما قد لا يضر المحتلين بقدر ما يودي بمواطنيهم، وذهبوا في سبيل ذلك مذهبا شائكا، منحرفين عن الطريق الذي رسمه لها رؤساؤهم، والذي كان أساسًا قويا لبلوغهم أهدافهم. وحيث إنه يتبين من كل هذا أن هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة، وإنما انحرفوا عن الطريق السوي، فحق على هذه المحكمة أن تلقنهم درسا”.
ميّز القاضي بين احتراف العنف والانحراف نحوه بدون تخطيط، مستندا لشهادات قادة الجيش المصري في حرب فلسطيين وسياسيين كثيرين ومفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني، الذي أشاد بدورهم منذ العام 1936. ولم يقتصر ذلك على مصر، حيث دخل متطوعو الإخوان المسلمين، وكان بينهم أقباط بالمناسبة، فلسطين قبل الجيش المصري. وفي الأردن، قاد مؤسّس الجماعة، عبد اللطيف أبو قورة، وكان من كبار تجار عمّان، كتيبتهم بعد أن جهّزها من ماله الخاص. وكذلك قاد مؤسّسهم في سورية، عميد كلية الشريعة والقانون في جامعة دمشق، مصطفى السباعي، كتيبة الإخوان السوريين، وهو ما فعله مؤسّس “الإخوان” في العراق، محمد محمود الصواف.
إذن، حملت كل قيادات الجماعة في ذلك الوقت السلاح، وقاتلت ضد المشروع الصهيوني، لكن هل نقلت تلك الخبرة القتالية إلى بلادها ومارست العنف؟ عاد السباعي إلى الجامعة والبرلمان والعمل السياسي، وكذلك الصواف وأبو قورة. المفارقة أن قائد قوات “الإخوان”، والذي وثق تجربتهم العسكرية في كتابيه “الإخوان المسلمون في حرب فلسطيين” و”المقاومة السرية في قناة السويس”، كامل الشريف، لجأ إلى الأردن بعد المواجهة مع عبد الناصر، وأسس صحيفة الدستور وصار وزيرا للأوقاف.
دفعت الجماعة ثمن قتالها في فلسطين، ولا تزال تدفع. في حرب مايو/ أيار الماضي، ظهرت منظومة صاروخية دكّت تل أبيب، ودفعت آلافا من المجندين الإسرائيليين إلى شبكة أنفاق المترو. لا ينظر العالم، وخصوصا الغرب، إلى الجماعة، باعتبارها “حزبا” يسعى إلى المشاركة السياسية.
لا شك أن أفرادا من جماعة الإخوان المسلمين انزلقوا إلى مربع العنف، وقتلوا قاضيا ورئيس وزراء بسبب مواجهة سياسية. ولكن ذلك لا يدين العنف في مواجهة الاحتلال، بريطانيا أم صهيونيا. وكما يمجَّد حسن البنا على قتال الاحتلال يلام على “النظام الخاص” الذي منحت له السرّية هامش حركة ورّطت الجماعة بالعنف. وفوق ذلك، لا تُبرّأ أنظمةٌ تمارس العنف والإرهاب على شعبها، وتغتال خصومها بالرصاص أو تعذيبا أو بالإهمال الطبي، وهو ما يولد إرهابا مضادّا. .. بعد سبعة عقود على اغتيال البنا لم يتغيّر شيء.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”