كتب: مهنا الحبيل
لم تكن معالم الصراع الغربي الجديد بشأن توقع زحف موسكو العسكري على أوكرانيا هي الأولى في معالم التشكّل الجديد للقوى الدولية، ولكن التغيّرات في انسحاب دور الغرب الأوروبي والأميركي أو تراجعه في مناطق الأطراف بدأت تدريجياً منذ ذروة العنفوان التي برزت في خطاب الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، بعد حرب الخليج الثانية، 1990-1991، إثر انسحاب الغزو العراقي من الكويت، فمع مُضيّ ذلك العقد المهم من تاريخ العالم الحديث العسكري، أصبحت واشنطن على عمليات القاعدة في تفجيرات سبتمبر 2001، ومرة أخرى خرج جورج بوش الابن محتفياً باحتلال العراق وأفغانستان، لكن ذلك النصر، على الرغم من وحشيته، على الإنسان، كمقابل أشد سوءًا بمراحل من حصيلة إرهاب القاعدة، تطوّر سلبياً على قوة الحضور الأميركي واستنزفها. ولذلك لم يتغير الموقف بين ترامب اليميني المتطرّف وبايدن الديمقراطي المنفتح، في قرار الانسحاب الكبير.
وفي إعادة تموضع القوات الأميركية في العالم، والتراجع أمام حركة طالبان وإيران، والدخول في لعبة جديدة مع الطرفين، تتكرّس لصالح اعتراف قوي بطهران، وتدفع “طالبان” إلى مرحلة صراعات أخرى، لم تعد واشنطن التي أمّنت قواتها طرفاً فيها، ولكن سياسات “طالبان” العشوائية وترصد الإقليم هو من يحرّك رياحها.
وما يهم واشنطن هنا هو الخروج بأقل قدرٍ من الخسائر، والمحافظة على أكبر مساحةٍ من النفوذ، لكن من دون تعريض القوات الأميركية والأوروبية لمزيد من الخسائر البشرية، على الرغم من أن ميزانية تلك الحروب غطّت خزائن الخليج العربي أكبر نفقاتها، ومن سخرية الزمن أن حصيلة هذه النفقات استفاد منها الإيرانيون أيضاً، وتعزّز النفوذ المتزايد لهم في المنطقة، عبر الجسر الأميركي.
لقد تتابعت الرسائل من أوروبا في تقدير الموقف الجديد، من تراجع الأميركيين وصولاً إلى تشكيل قوات أوروبية مستقلة عن “الناتو” وحلف واشنطن، لتأمين مصالح أوروبا وحدودها، في معزل عن التقلبات أو المراجعات الأميركية. وعلى الرغم من أن موقف الروس المهدّد لأوكرانيا قد وحّد جبهة “الناتو” من جديد، فأوكرانيا ليست تركيا، ولكنها من جسم تاريخي ينتمي لرابط مسيحي وقومي مع أوروبا، يفرض هذه الانتفاضة الجديدة.
ومع ذلك، هي انتفاضة تسعى بوضوح إلى احتواء الموقف الروسي قبل الصدام، والدفع بميزان الرعب لصالح “الناتو”، والذي يصر بوتين على تجاهله، وعلى بعث رسائل معاكسة له، قد تكون مستفزة للحلف وللبيت الأبيض بالذات، فالقلق الغربي من توسّع الحرب وعدم مقدرة “الناتو” على ضبطها، أو خسارة أوكرانيا بعد حرب عسكرية صعبة مكلفة، سيُعزّز التنين الصيني الذي يراقب المشهد من أسواره البعيدة القريبة. وفي المحصلة النهائية، هناك ميلاد جديد لموازين القوى العالمية، مختلفٌ كلياً عن عهود الحرب البادرة وما بعدها.
ولعل كل دول الخليج العربي لاحظت معيار التغيّر الواسع الذي سيؤثّر على مراهنتها القديمة المرتبكة بضمان الأمن القومي لها عبر الغطاء الأميركي، وسعت إلى تأسيس علاقات هادئة مع بكين وموسكو الجديدة، تُحيّد أقطارها في هذا الصراع من دون أن تتورّط فيه، لكن المدار الأميركي الذي ارتهنت به دول الخليج العربي سيتأثر بالتغيرات المستقبلية والضمان الأمني لها.
بالطبع، هناك فروق كبيرة بين دول الخليج العربي، فعُمان حافظت على قوتها الهادئة، وحيدّت سياستها منذ زمن طويل، في حين كانت السعودية تسعى دوماً إلى استثمار ضخامة جغرافيتها السياسية الواسعة التي تضم أقاليم عربية متعدّدة، ولكن قوتها العسكرية تعرّضت لاختبار صعب غير موفق لها في حرب اليمن، فضلاً عن إشكالات الصراع الفكرية الأخيرة، مع العالم الإسلامي والوطن العربي.
وسعت الإمارات إلى خلق وجود نوعي يدفع بها إلى أن تكون دولة مركزية في حروب المنطقة وصراعاتها، كحليف فكري استراتيجي مع الغرب، غير أن المشهد الأخير في ارتدادات هذه الحروب عليها، وبالذات المواجهة مع الذراع الإيرانية في اليمن، أسقط تلك المحاولة، وخصوصا في ظل حرص أبوظبي على عدم نقل التوتر مع الذراع الحوثية لطهران، إلى العلاقة المباشرة مع إيران ذات الحدود البحرية المشتركة، والقوة الاقتصادية في سوق الإمارات والنفوذ الجيوسياسي.
أما قطر فقد أنجزت حقيبة تحالفات دولية وإقليمية، فمع تثبيت العلاقة الإستراتيجية مع تركيا، تقدّم ملف التحالف الذي أقرّه الأميركيون مع الدوحة، لتحقيق مساحة مهمة لواشنطن من خلال حيوية الدور القطري وجسوره مع مناطق الصراع، فبرزت الدوحة نموذجا عقلانيا للمركز الغربي الجديد، ولكن موقعها الجغرافي والديمغرافي يظل ذا حساسية عالية.
في حين تضعضع موقف البحرين التي تدفع إيران لحضور أكبر للمرجعية الطائفية فيها، على غرار العراق، وعينها تمتد إلى إقليم الاحساء (الشرق السعودي) المفصل الأخير لمشروعها. وأما الكويت، فيجعلها الحفاظ على موقع السياسة القديم أكثر حذراً من أي تغييرٍ يذكر، ولعل حالتها الحسّاسة في الحسابات الحدودية عطّلت أي محاولة تطوير لجيوسياسيتها للأمن القومي، وكأنها تتمثل بمقولة خليجية قديمة “لا تحرّك تبلش”.
ونلاحظ هنا أبعاد أزمات حقوقية وسياسية في كل دول الخليج، ربما توارت في عُمان وتراجعت في الكويت بسبب العفو أخيرا، لكن بالجملة تتراجع المشاركة الشعبية والإصلاح السياسي في جميع هذه الدول. هنا برز في البحرين والإمارات، على سبيل المثال، التقدّم المتهور نحو تل أبيب، لصناعة تحالف فارق في ظل الصدام الدولي، وهذا وهم لن يحقق أي أمن للدولتين، وحتى من يسعى إلى استرضاء إسرائيل سراً من بقية الدول لن يجني من الكَرْمِ إلا الشوك، فطبيعة التحدّيات التي ستفرضها التغيرات في الصدام العالمي، أو التقدّم الأكثر لبكين وموسكو، وخصوصا في مرحلة الفوضى الانتقالية التي قد يعيشها العالم، لا يمكّن دولة الاحتلال إلا أن تحافظ على توازنها القوي مع الغرب، في حين تلعب بمصالحها في أحلام الخليج العربي التائهة، أما زحف الرمال وسقوط الدول والأنظمة فيفرضه مدارٌ أقوى من هيكل الصهاينة.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”