فهد الغويدي: “بين التطبيع والتطويع”
بجمل رصينة وعبارات حادة وقوية كتب رئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني مقاله المنشور في مجلة الفرقان قبل ربع قرن من الزمان تحت عنوان “التطبيع إبادة حضارية” وبعد حوالي 25 عاما من كتابته للمقال أصبح على رأس الوفد المغربي الذي طبع مع إسرائيل، وليس من المعقول أن يكون قد وقع معاهدة السلام مع إسرائيل بذات القلم الذي كتب به مقالته تلك ولكنها ذات اليد بكل تأكيد
ولا نلوم الرجل فربما غلبت عليه حماسة الشباب آنذاك وتهورهم المعهود وبعد أن تقدم في السن ومع اشتعال الرأس شیبا اشتعل معه موقد الحكمة ومشعل البصيرة التي اقتضت نسيان المواقف السابقة بل والانقلاب تماما عليها!
يصادف اليوم الذكرى الثانية والأربعين لتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في واشنطن بناء على اتفاقية كامب ديفيد، الاتفاقية التي دشنت حقبة جديدة للوجود الإسرائيلي والصراع العربي الإسرائيلي، وفتحت المجال أمام احتمالية تطبيع آخر جديد مع إسرائيل وهو ما حدث فعلا في أوسلو ثم في وادي عربه وقد جسد ذلك الشاعر الكبير أحمد مطر في قصيدة الثور والحظيرة .
وكما هو واضح فنحن نعيش ما يمكن أن نطلق عليه موجة التطبيع الثانية وإن كان لا يخفى على القارئ أنها مجرد إعلان عن تطبيع سابق خفي وهنا الإشكالية!
لأن حجم الاندفاع الذي أبدته الإمارات على سبيل المثال في مجالات كثيرة كالثقافة والرياضة والسياحة وبهذه السرعة يشير إلى حجم التنسيق السابق بينها وبين إسرائيل في مجالات أخرى أكثر أهمية، فما تحقق بين مصر وإسرائيل منذ عام 79 استطاعت الإمارات تحقيقه في غضون أشهر قليلة، بل والقفز عليه وتجاوزه، وليست الإمارات وحدها في ذلك، بل على ما يبدو جميع الدول التي طبعت مع إسرائيل أو “أعلنت” تطبيعها مع إسرائيل تسير في وتيرة متسارعة جدا كما لو أنها تحاول تعويض ما فاتها خلال السنوات السابقة.
هذه القفزات الكبيرة والوتيرة المتسارعة في العلاقة مع إسرائيل تشبه إلى حد كبير النمو الاقتصادي السريع وغير المحمي والذي يعرف اقتصاديا باسم “الفقاعة الاقتصادية” لأن هذه الأنظمة لا تقدم ولا تستطيع أن تقدم صداقة مع إسرائيل بمنأى عن الشعوب؛ فالشعوب هي الرقم الصعب والذي يتم تهميشه في كل مره من قبل هذه الأنظمة لأنها ببساطة قد أمنت عقوبته!!
فبالعودة لمعاهدة السلام المصرية مع إسرائيل ومع الأخذ بالاعتبار أن مصر السادات آنذاك ليست کمصر حسني مبارك وقطعًا ليست كمصر السيسي، استطاعت أن تقدم تبرير مسبقًا لتطبيعها أمام شعبها على الأقل (فبعد النكسة استطاعت مصر النهوض مجددا في أكتوبر 73 ثم بدأت بالتفاوض من منطلق قوة؛ فما الذي قدمته الدول العربية الأخرى التي جاءت بعد مصر؟! وما الذي ستقدمه الدول التي تنتظر الفرصة للإعلان عن تطبيع ومعاهدات سلام تأتي بعد تعاون أمني وعسكري وليس حرب؟! والسؤال الأهم ماذا استفادت هذه الدول أو ستستفيد من التطبيع؟!
أترك الإجابة على السؤال الأول والثاني للقارئ، أما السؤال الثالث فالإجابة عليه هي أن المستفيد الأكبر ولا نبالغ اذا قلنا الأوحد هي إسرائيل، يكفي أن نذكر أن حجم الصادرات الإسرائيلية إلى الأسواق العربية أكثر من 7 % من حجم الصادرات الإسرائيلية بقيمة تقدر بأكثر من 7 مليار دولار أمريكي.
وقد شكلت السوق الخليجية حوالي 15% من هذه الصادرات بأكثر من مليار دولار سنويا، وهذا الشيء المعلن من السلع وفقا لدائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية؛ فكم تبلغ حجم العائدات من السلع غير المعلنة؟! ومن الخدمات غير المعلنة كذلك؟! سيما الخدمات العسكرية والأمنية، وكم ستتضاعف هذه العائدات ؟!.
خصوصا بعد أن أعلنت الإمارات عن وقف قانون المقاطعة للسلع والخدمات الإسرائيلية ومرور نفطها إلى أوروبا عبر إسرائيل وافتتاح صندوق للاستثمار في إسرائيل بقيمة تقدر بحوالي 10 مليار دولار أمريكي.
ومن ضمن المكاسب الإسرائيلية المهمة كذلك تخفيف العزلة التي أرهقت إسرائيل في الشرق الأوسط والتي لم تكن من ضمن مكاسبها في 79 أو في 94 فالتطبيع مع مصر والأردن لم يكن دافئا إذا صحت العبارة.
في حين أن الدول العربية تعتقد واهمة بأن العلاقة مع إسرائيل سينتج عنها ضغط على الولايات المتحدة من أجل دعم توجهها السياسي ومزيد من الضغط على العدو المشترك إيران.
لذلك وعلى الطريقة العثمانية (نسبة لسعد الدين العثماني) وليس الدولة العثمانية كانت المغرب قادرة أن تقفز على مبادئها وقيمها وطبعت العلاقات مع إسرائيل من أجل انتزاع اعتراف على الصحراء الغربية.
في حين تسعى دول الخليج للتخلص من الكابوس الإيراني، لكن لا الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية سيحل مشكلة الصحراء، ولا الخطر الإيراني في الخليج سيزول ويتلاشى بفضل إسرائيل!!.
فأصبح تطبيعهم تطويعا لهم والحقيقة أن هذه الدول لم تكتفي بتطبيع دون ثمن فحسب بل خسرت وستخسر الكثير حتى على المستوى البرغماتي لأن الأنظمة العربية عاشت واستطاعت أن تصمد أمام شعوبها بشرعیات مختلفة، والأنظمة السياسية عموما لا تستطيع البقاء إلا بشرعية ما كتطبيق الحد الأدنى من الاستقلال وعدم التبعية والتكفل بالحد الأدنى من الاستقرار والأمن والحياة الكريمة لشعوبها أو عبر الديموقراطية أو عبر ادعاء شرعية دينية والقدرة على تطبيقها.
في الشرق الأوسط ثمة شرعية أخرى لهذه الدول وهذه الأنظمة وهي شرعية محاربة إسرائيل، ففي الحالة الإيرانية محاربة إسرائيل وأمريكا لأن الثورة الإيرانية جاءت کردة فعل لنظام الشاه ثم لم تستطع أن تفي بوعودها فاحتاجت إلى شرعية أكبر تمثلت في نصب العداء لما تصفه بالشيطان الأكبر وهو في هذه الحالة إسرائيل والولايات المتحدة، أما الأنظمة العربية فلا شرعية لها أمام شعوبها إلا محاربة إسرائيل بوصفها الكيان الصهيوني المحتل والمغتصب للأرض، والحقيقة أنه لولا وجود إسرائيل لزالت هذه الأنظمة بصورة وبشكل تلقائي، أما الانجراف خلف المشروع الإسرائيلي وتسريع وتيرة التطبيع بهذا الشكل سيسقط ورقة التوت التي لطالما اجتهدت هذه الأنظمة في الدفاع عنها.
وهي تدرك ذلك ولهذا السبب يتم توجيه دفة العداء إلى إيران ومرة أخرى بوصفها کیان محتل ومغتصب للأراضي العربية حتى أنني سمعت محللًا سعوديًا في إحدى القنوات يقول “إن إسرائيل وإن كانت قوة احتلال إلا أنها تحتل بلد عربي واحد في حين أن إيران تحتل أربع عواصم عربية”!!
إذا نحن بصدد استبدال لورقة التوت الإسرائيلية بأخرى إيرانية والحقيقة أن غياب الشرعية والمشروع هما الأسباب الحقيقية في تنامي الدور الإيراني والإسرائيلي في المنطقة على حد سواء، وغيابهما يعني ببساطة سقوط لهذه الأنظمة.
ولنستذكر نموذج جمال عبد الناصر؛ فبالرغم من أنه جاء للسلطة في مصر بانقلاب ومني بهزيمة تلو الأخرى وخسرت مصر في عهده الكثير من المكتسبات وتقلص دورها وتقلصت مع ذلك الدور مساحتها الجغرافية إلا أنه استطاع أن يكسب تعاطف ودعم الشارع العربي من المحيط للخليج وأن يوجد لنفسه تيارًا ممتدًا حتى الآن لأنه أعطى نفسه شرعية مقاومة الاحتلال وتبني مشروعين أحدهما داخلي متمثل في السد العالي الذي استطاع من خلاله أن يشحذ همم المصريين ويجعلهم يصطفون خلفة والآخر إقليمي متمثلا في القومية العربية.