كتب: مهنا الحبيل
تقفز تحليلات الحروب، في وهلتها الأولى، إلى الميدان العسكري ومآلاته السياسية المباشرة، من دون أن تتوقّف مع جذور الكارثة، أو في الفكرة التي قامت عليها الحرب أو جذوة الصراع، وما هو موقف الفلسفة الأخلاقية منها، ليس كجدل تنظيري منفصل، يختلط بهذر سفسطائي منفصل عن الواقع والحياة، ولكن كعمق ضروري للفهم العقلاني الرشيد الذي يُحدّد مساحة الخيرية ميزاناً في أحداث العالم. ولذلك، المنظور السريع عن الحرب الروسية أو الغزو الروسي لأوكرانيا اليوم، لا يُحقق قاعدة هذا الفهم، والفرز الضروري للمستقبل الإنساني.
بعث خطاب الرئيس الروسي بوتين المطوّل، كمقدمة قبل إعلانه الحرب، جذور الأيديولوجية القومية الروسية وانتمائها الأرثوذكسي، في مواجهتها مع الشقيق العدو، وهو الغرب الكاثوليكي الليبرالي، كأقرب التصنيفات التي نضعها بين الكتلتين، لنحدّد مفهوم الاتصال والانفصال في الداخل الأوروبي، ولسنا بالضرورة نسقط كلّ جوانب الاختلاف أو التصنيفات الأخرى. … فأين تقع روسيا، أليست ضمن الجغرافيا الأوروبية؟ بغض النظر عن صراعاتها التاريخية الكبرى، قبل الاتحاد السوفييتي، مع الدول والقوى الأوروبية الأخرى، فهذا ديدن التاريخ الأوروبي الذي لم يستقر إلّا بعد الحرب العالمية الثانية، فهل استقر؟ أم أنّه أدار حروبه الداخلية، وحوّلها إلى عالم الجنوب، فالنازية ذاتها، بكلّ حروبها، كانت تنطلق أيضاَ من منظور أوروبي عرقي عنصري بنزعةٍ مسيحية متطرّفة. وبوتين اليوم ينطلق من قومية عنصرية ونزعة أرثوذكسية.
وهذا كله لا ينفي عن الآخرين، في أوروبا القديمة وفي أوروبا الجديدة والولايات المتحدة، توظيفهم سياق التعصب القومي والديني الذي دمجت به، وغلفت القوة الليبرالية التقدّمية في العالم، كانت تختط في حروبها ومواجهاتها السبب ذاته الذي استخدمه بوتين في الخطاب للتبرير لحماية أمته القومية.
الحصاد الذي سجله بوتين ضد الشقيق العدو الغربي، في تلاعبه بالسياسات والمواقف، هو أيضاَ قد يصدُق في دلالات موقف حلف الناتو المنافق من أوكرانيا ذاتها، وحجم الدعم المقدّم لها أو الانسحاب، ودعم وجود قوة استنزافٍ للروس يطول أمدُه، وينهك القيصر الجديد، وهو ذاته الذي احتجّ به بوتين في الخطاب نفسه، حين استعرض حربه المتوحّشة ضد الشعب الشيشاني، والذي قاد فيه إعلان الاستقلال الزعيم الراحل جوهر دوداييف، ثم احتُجّ بالإرهاب عليه، على الرغم من أنّ دوداييف، أول كفاحه، لم تكن له علاقة على الإطلاق بأيّ جماعاتٍ إسلامية مسلحة. وكان ضمن النسيج القوقازي الصرف، بل كانت ثورة الشعب الأولى في القوقاز في القرن التاسع عشر وقاومت عدة عقود، ولم يكن حينها أي وجود لـ”القاعدة” ولا غيرها، وانتهت بإبادتها بيد روسيا القيصرية.
يحتجّ بوتين أيضاً، في خطابه، بوقاحة، بإبادة الشعب السوري، وتدخله العسكري لدعم نظام دمشق الذي لم يكن حالة غزو لدولة مستقلة كأوكرانيا، يحذّر بوتين الغرب من دعمها، ولكن أمام ثورة شعبية بدأت سلمية وعزلاء من السلاح، وحين اهتزّ عرش عميله في دمشق، بادر بالتدخل، وذبح ذلك الشعب بحربة مليشياته أو بقصفه الذي لا يزال يُمطر على شمال سورية، حروب إبادة تبرّر باسم الإرهاب، وهو المعيار نفسه الذي استخدمه الغرب في أفغانستان وفي العراق، وقبله في فيتنام، وفي دول أخرى في أفريقيا وآسيا، وفي أميركا اللاتينية وفي الكاريبي. وفي كلّ الحالات، لم تَصدق الدول الغربية مطلقاً، في أنّها تُطبّق ما تزعمه من دعم ديمقراطية حقيقية، يقف فيها الشعب مستقلاً بحريته وقراره، ويوزّع ثروته بحسب مصالحه، لا مصالح الأنظمة الشمولية القمعية في بقية العالم، والتي خدمت صناديق الغرب.
هنا نحن أمام معادلة ضرورية تحتاج أن تُفرَز من جديد بقوة أخلاقية، ما هو الإرهاب وما هي معايير أضراره، وما هي الحالات الأكثر ضرراً على الشعوب، وما هو مصير العالم في الظاهرة الإرهابية الدولية التي لا تنفذها جماعات عنف، لكنّ سياسات دول عظمى تُسقط العالم بعد أن أنهكته وصنعت منه سوقاً برجوازيا شرساً، ثم تتاجر في الحروب على حساب الإنسان الآخر، فهل تتغير هذه المعادلة عندما تكون الحرب في عالم الشمال؟ أين هي سجلات التاريخ الموثقة في مسيرة الحروب؟ وما هي القوميات والأمم التي أشعلتها بالذات بعد قيام العالم الحديث؟ كم استنزفت هذه القوى الكوكب، وكم مكّنت لجماعات عنفٍ عبر توظيفها، أو من خلال ردة الفعل للتوحش الآخر الذي لم يكن لينتشر في العالم الحديث، إلّا بعد سلسلة من الحروب العدائية على عالم الجنوب، وبالذات حاضر العالم الإسلامي؟ ولقد تحدّث بوتين عن العهد الشيوعي بغضب، محمّلاً إياه التنازل عن أراضي القومية الروسية الأرثوذكسية، مقابل انضمام تلك الدول إلى الاتحاد السوفييتي، فمن صنع الثورة البلشفية، ومن أين انطلقت، وأين تمكّنت؟
نستحضر هنا الخطاب الغربي الجديد المتفق مع الخطاب الروسي. يقود الشق الأوروبي فيه الرئيس الفرنسي ماكرون، وتتبعه أحزاب عديدة في الغرب، تنزع إلى اليمين المتطرّف، ويقود شقه الشرق أوروبي الرئيس بوتين. إنّه تحريض العالم على الإسلام والمسلمين، واعتباره خطراً عالمياً وتعميم الموقف منه، حتى مع صدور استثناءاتٍ أو رعاية أنشطةٍ دينيةٍ أو مساجد باسم الإسلام المناسب لكلتا القوتين.
الإنسان الآخر تمثل المسلمين اليوم كتلته الكبرى، ويُحرّض عليهم ويعلن دينهم ديناً حربياً، بزعم أولئك الساسة في موسكو أو في “الناتو”، فأين بعث المسلمون الحروب على غيرهم في العالم الحديث، إذا كنا ننطلق من تاريخ جديدٍ للإنسانية، مع أنّ أرقام العالم القديم ليست في صالح أوروبا بشقّيها، ماذا فعل المسلمون مقابل الأيديولوجية الليبرالية الغربية أو الأيديولوجية الشيوعية الروسية؟ أين مقعدهم في الأحداث والمحارق الكبرى في الحداثة المزعومة؟ هل إرهاب جماعات العنف من المسلمين المدانة ردة فعل أم فعل ابتدائي؟ إنّه الغربال المزيّف الذي يغطي سوأة الإرهاب العالمي الحديث، ويخنق صوت العدالة الإنسانية لإنقاذ البشرية.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”