كتب: مدى الفاتح
تعد السويد بلداً من بلاد الرفاه، التي يحظى فيها اللاجئون والمهاجرون بمعاملة جيدة، حتى مقارنة مع دول أوروبا الأخرى، وهي من البلاد التي يكون فيها تشبيك المهاجرين في الخدمات الأساسية كالسكن الملائم والتأمين الصحي أسرع من غيرها.
يعلم هذا اللاجئون الذين يقارنون أوضاعهم بأوضاع آخرين في دول أخرى، فالمعلوم أن الدول الأوروبية تتفاوت في الدعم المادي المقدم، كما تتفاوت في طريقة تقديمها للخدمات الاجتماعية، بين التي تكتفي بمنحك بطاقة إقامة وتصريح عمل، يسمحان لك بكسب الرزق، ودول أخرى تتابع الإنفاق عليك حتى تحظى بوظيفة، أو عمل مناسب وإن استغرق الأمر سنوات، وهي تلك المستهدفة من جموع القادمين. يفسر هذا فرار اللاجئين من دول مثل اليونان وإيطاليا واستماتتهم من أجل الوصل لدول أخرى أغنى.تبدو هذه القصص مبالغا فيها، وبالفعل تبرع مجموعة من المبهورين بالأنظمة الاجتماعية الأوروبية للدفاع عن “السوسيال”، وتبني وجهة نظر تبريرية ومشككة، لكن للأسف فإن هذه الروايات ليست من وحي الخيال، واليوم يوجد الكثير من المنظمات الحقوقية والدراسات الأوروبية التي تقر بوجود أخطاء قد تنتج عن سوء تقدير، أو بسبب التعمد أو الفساد، وقد كتب عدد من العاملين في “السوسيال” نفسه موجهين نقداً لاذعاً لهذا النظام. آخر ما اطلعت عليه كان على موقع “أكتر” العربي السويدي، الداعم للسياسات الحكومية، حيث قام بعقد لقاء ضم متخصصين للنقاش حول الموضوع، إلا أنهم لم يستطيعوا نفي وجود تجاوزات.
في ذلك اللقاء وفي إجابة عن سؤال حول تعارض الممارسات السويدية مع مواثيق الأمم المتحدة لحماية الطفل، أجاب الخبراء قائلين، إن هذه المواثيق الأممية هي لوائح عامة يمكن تفسيرها وفق ما ترى كل دولة، وإن الأهم هو مصلحة الطفل وليس الأب أو الأم. هذه الإجابة تفسر كل شيء، فبالنسبة لدول الشمال يمكن تفسير أي معاهدة، ووضع أي قانون بما يخدم مصلحة واضعيه، وليس من حق أي أحد أن يجادل.
بشكل يفتقر إلى المنطق يمكنك أن تستمع لمنظري ما تسمى “الحماية القسرية للطفل” وهم يخبرونك أن الأطفال المعزولين عن والديهم، الذين وجدوا أنفسهم فجأة في بيئة غريبة هم أسعد بكثير الآن، وأن هذا يصب في مصلحتهم، وأن من هذه المصلحة ألا يروا أهاليهم مرة أخرى. هنا لا يتحدث أحد عن حق الطفل بالاحتفاظ بثقافته ودينه وهو حق منصوص عليه في المواثيق الدولية، كما لا يتحدث أحد عن النتائج الكارثية الواضحة لهذه السياسة خلال العقدين الماضيين.
النقاش حول “السوسيال” لم يعد نقاشاً اجتماعياً محضاً، بل أصبح سياسياً كذلك، وفي الوقت الذي تعمل فيه المنظمات العربية والإسلامية، التي ترى أن أبناء جالياتها مستهدفين أكثر من غيرهم، على تنظيم وقفات احتجاجية تهدف لمراجعة هذا القانون ووقف ما يعتبرونه “اختطافاً” للأطفال، نكتشف أن هذا النظام، بشكله الإشكالي الحالي، يحظى بتأييد أشخاص مثل السياسي المتطرف راسموسن بالودان، وهو سويدي دنماركي من حزب “سترات كورس” اليميني. هذا الحزب كان قد قام بتنظيم فعالية لحرق المصحف الشريف في أغسطس/ آب من عام 2020.
بالودان تسبب بشكل شخصي في عدد من الأزمات، بسبب كراهيته التي لا يخفيها للمهاجرين والإسلام، حيث دعا في تصريحات علنية لإبادة المسلمين، معتبراً أن الخير هو أن لا يبقى مسلم واحد على وجه الأرض.
يعزز دعم متطرفين مثل بالودان لقوانين سحب الأطفال، من وجهة النظر التي تقول إن هذه القوانين أعدتها وتقوم بتنفيذها مجموعة من اليمينيين، الذين يرغبون في أن تستفيد بلادهم التي تحتاج لأيدي عاملة وسكان إضافيين من أبناء المهاجرين، لكن بعد قطع صلاتهم بشكل تام عن مجتمعاتهم الأولى وثقافتهم، بحيث يكونون مجرد مواطنين سويديين، يحدث ذلك بالتوازي مع تحركات في دول أوروبية كثيرة، أعلن قادتها قناعتهم بأن هناك مشكلة في الإسلام، ابتداء من ماكرون الذي تحدث عن “أزمة الإسلام” و”الانفصالية الإسلامية” وميركل التي كانت تحدثت عن “فشل الاندماج” وغيرهما. خلاصة هذه القناعات هو أن الرهان على الوقت من أجل دفع المسلمين للقبول بالقيم الغربية فاشل، وأنه حتى الأجيال التي عاشت في الغرب يظل كثير منها مرتبطاً بثقافة أهله أكثر من ارتباطه بالمجتمع الأوروبي.
من هنا ولدت التجربة الجديدة وهي قبول الأطفال، لكن بمعزل عن والديهم. من جهة أخرى يهدم دعم المتطرفين وكارهي الأجانب، الذي يتطور لإقامة أنشطة ووقفات تأييد لنظام “السوسيال”، ما تقوم به السلطات السويدية من محاولات لكسب الرأي العام، عبر مواقع وقنوات للعلاقات العامة تركز في خطابها ورسائلها على كون أن الأزمة ناتجة عن سوء فهم كبير وتشويه متعمد من قبل جهات إرهابية أو معادية.
أحد هذه الاجتهادات كان برنامجاً على التلفزيون، حمل شهادة إحدى الأمهات التي قالت إن طفلتها لم تسحب منها، رغم أنها ضربتها، حيث اكتفى “السوسيال” بإخضاعها لدورة في القانون السويدي وطرق التربية. كانت الرسالة هي ان مسألة السحب أو الرعاية القسرية للأطفال لا تتم إلا في الحالات المعقدة. بالنسبة لكثير من الحانقين على “السوسيال” فإن مثل هذه الشهادات، إن صحت، فهي لن تكون إلا الشذوذ، الذي يؤكد القاعدة ولا ينفي وجود مشكلة، فمقابل كل شهادة مادحة لبرامج رعاية الأطفال السويدية، يمكن تقديم مئة شهادة تحكي عن “خطف” طفل وحرمانه من أهله لأسباب واهية.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”