كتب: شريف أيمن
تحدّث الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في احتفالات أعياد الميلاد للمسيحيين الأرثوذكس في مصر ليلة السابع من يناير/ كانون الثاني الماضي، عن أوصاف الجمهورية الجديدة التي يريد أن يرسّخها، فقال إنّها “جمهورية الحلم والأمل، جمهورية العلم والعمل، الجمهورية القادرة وليست الغاشمة، المسالمة وليست المستسلمة”. لكن بالنظر إلى وقائع حكمه منذ الانقلاب العسكري، نجد نقيض هذه الأوصاف في كل سلوك يصدُر عنه، وفي كل لحظة من حكمه، سواء من وراء ستار خلال فترة المستشار عدلي منصور، أو بصورة مباشرة منذ اعتلائه الحكم منتصف 2014.
نُنحِّي هنا تجاوز النظام السياسي الحالي القانون عند تعامله مع خصومه المعارضين، ليس لأنّهم يستحقون هذا التعامل الخارج عن القانون والطبع الإنساني، بل لبيان أنّ عدم الرُّشد والعدوان الصادرَين عن هذا النظام لا يقفان عند حدود الخلاف السياسي، ويمتدّان إلى مدى أحلام صاحب الأمر والنهي في الشأن المصري.
ونهاية الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، كان السيسي يُطلِق ما أسماه “المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية”، في العاصمة الإدارية الجديدة، وقال حينها: “أنا علشان أفتح شارع، بشيل (أهدم) ألف بيت علشان الناس تمشي في حتت (أماكن) محدش يمشي فيها”. للمفارقة، كان مشروع تنمية الأسرة المصرية هو المناسبة التي أعلن فيها السيسي أنّه يقوم بهدم ألف منزل في كلّ واحد منها عشرات الأسر، وذلك من أجل الطُّرق فقط، وهو يعتبر أنّ ما يفعله جزء من مفهوم حقوق الإنسان الذي ابتكره باعتباره مُلهِماً للفلاسفة ولزعماء العالم.
ليس الإشكال في مجرد الهدم لأجل ما يسميه النظام “المنفعة العامة”، فقد يكون هذا مقبولاً إذا قابله تعويضٌ مناسب، إما بالمقابل المادي، أو بوحدة سكنية بالمساحة نفسها في المنطقة ذاتها، لكنّ التصريحات الرسمية تكشف أنّ التعويضات غير مناسبة؛ فقد سبق لوزير النقل، وهو ضابط سابق، أن أعلن قيمة تعويض المنازل التي يهدمها لتوسعة الطريق الدائري بـ”أربعين ألف جنيه للغرفة الواحدة” (الدولار 15.6 جنيهاً تقريباً)، أي إنّ الوحدة السكنية من أربع غرف سيُعوَّض ساكنها بمئة وستين ألف جنيه فقط، وهو مبلغ لا يتناسب إطلاقاً مع سعر الوحدات هناك، التي قد يراوح سعر المتر الواحد فيها بين 3000 إلى 6000 جنيه.
فضلاً عن ذلك، لا يعوّض النظام صاحب الوحدة السكنية المغلقة لأي سبب، فقد يكدّ الموظف سنوات حتى يبلغ سنّ المعاش (التقاعد)، ويشتري قطعة أرض ليضمن مستقبل أبنائه، فيقضي التعويض للشقق الساكنة فقط، من دون أي اعتبار لشقاء السنين الذي هُدِم في لحظة بداعي “المنفعة العامة”. كذلك، هناك إزالات تحدُث بداعي التطوير، وهي في الحقيقة بداعي الاستثمار وتحصيل عوائد مالية على حساب البسطاء، فمثلاً مشروع تطوير منطقة “مثلث ماسبيرو” في وسط القاهرة، أُخرِج الساكنون منه لمصلحة شركات إماراتية، وهي منطقة مطلّة على نهر النيل، ولها قيمة سعرية مرتفعة للغاية، وهذا نفسه ما يجري الترتيب له في جزيرة الورّاق، وغيرها من المناطق النيلية، ولهذا أفرد السيسي حديثه عن منطقتي غرب النيل وشرقه في لقائه 2 مارس/ آذار الجاري.
أما المناطق السياحية، كأسوان والأهرامات، فتجري فيها عمليات تطوير تستهدف المناطق السياحية فقط، بغرض تجميل المشهد العام للدولة، بحيث يصل الانطباع إلى السائح بأنّ هناك حركة تحديث تجري في مصر. وبمجرد الانعطاف أمتاراً معدودة خارج الطرق الرئيسية، يجد المارّ أنّ التجميل حاصل لأجل المظهر الخارجي للنظام السياسي، لا لأجل المواطنين.
بالإضافة إلى ما سبق، يجري التهامس بشأن مشروعات الطرق داخل القاهرة باعتبارها مرتبطة بعملية سرعة الانتشار للقوات الأمنية حال حدوث تظاهرات ضد النظام السياسي، وهو ما يعيد إلى الأذهان تصريح السيسي بأن الجيش قادر على الانتشار في ربوع مصر خلال ست ساعات فقط، فالمصريون أمام مشروعات لها غاية خاصة تتعلق بأربعة أمور: أحلام حاكمهم، والبحث عن عوائد مالية ضخمة من المناطق التي لها امتياز جغرافي، ومشروع تجميل شكل الدولة لستر قُبح نظامها، ومشروع قمع أي انتفاضة جماهيرية.
ما يُشاهَد في مشروع “الجمهورية الجديدة” مشروعات تهدم من أجل بناء مجد شخصي يتباهى به السيسي، فهو يعيش في أوهام مصر الخديوية، ويتجلَّى ذلك في مشهد ركوبه “يخت المحروسة” في أثناء افتتاح تفريعة قناة السويس، أو سعيه الدؤوب لبناء مدن جديدة ينقل المصريين إليها قسراً بعد إخراجهم من منازلهم بداعي التطوير، أو اعتياده مخاطبة رئيس الوزراء بمصطلح “دولة رئيس الوزراء” وهو اللفظ المعهود في العصر الملكي. وقد سبق له أن أوعز إلى وزير التنمية المحلية، محمد علي بِشْر، في أثناء عام الرئيس الراحل محمد مرسي، أن حلّ التظاهرات في مصر يحتاج إلى مذبحة مثل مذبحة القلعة. فنحن أمام رجل مُغرِق في التاريخ، لكنه إغراق الموهومين والحالمين السُّذّج، لا إغراق المستبصرين والمعتبرين بقَصَص الغابرين.
لا يحتاج المصريون جمهورية جديدة بقدر ما يحتاجون مدارس جديدة، ولا يحتاجون إلى سجون جديدة بقدر ما يحتاجون مستشفيات جديدة، ولا يحتاجون منتديات للشباب بقدر ما يحتاجون تأهيل الشباب لسوق العمل، ولا يحتاجون مشروعات دعائية بقدر ما يحتاجون توفير فرص عمل حقيقية، ولا يحتاجون إلى ضرائب إضافية، بل يحتاجون إلى رفع دخولهم، ولا يحتاجون إلى إيهامهم بزيادة النمو الاقتصادي بقدر ما يحتاجون إلى العدالة في توزيع الدخل.
حاجة المصريين الحقيقية تكمن في التعليم والصحة، ومعهما الديمقراطية، وهي الأمور التي خرجت من حسابات نظام يوليو 2013، ومشاهد المصريين في المستشفيات وهم لا يجدون أَسِرَّةً، والطلاب وهم متكدّسون داخل الفصول، ونسب الفقر المتزايدة، كل هذه الأمور تكشف بوضوح زيف النظام السياسي في إحداث أي نهضة أو رفاهية للمجتمع الذي يُقهَر بنيران الاستبداد ونيران الجباية. وبينما يطالَب المحكومون بالاقتصاد والتقشّف، يجدون حاكمهم يخرُج بصورة شبه يومية في مؤتمرات تكلّفهم الملايين، ليُحدّثهم عن إنجازاتٍ لا يجدون منها سوى لهيب الأسعار، وطُرُقاً لن تُغنيَهم شيئاً إذا لم يجدوا قوت يومهم، فالحجارة التي يُكدِّسها السيسي لن تكون طعاماً للجائعين.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”