فهد الغويدي: غزة.. صخرة بُلاي
لا تزال الأحداث في فلسطين مستمرة، ولا تزال وتيرتها متسارعة، وتنتشر هذه الأيام روح انتصار عارمة سواءً في الداخل الفلسطيني أو حتى عبر وسائل أو مواقع التواصل الاجتماعي، بعد الصمود الكبير والتاريخي الذي أظهره سكان قطاع غزة “المحاصر” والمقاومة الكبيرة التي صدمت العالم قبل أن تصدم الأجهزة الأمنية في إسرائيل التي استهانت بشكل كبير في إمكانات ومقدرات أهالي غزة وبالمقابل ضخمت من إمكانات إسرائيل في صد أي هجوم صاروخي قادم من القطاع، وبعد إعلان الاحتلال رغبته في إيقاف العمليات العسكرية على القطاع بعد يوم واحد من تصريح نتنياهو الذي قال فيه إن العملية العسكرية مستمرة على القطاع ولن تتوقف .
لكن لو سألنا أنفسنا سؤالا بسيطا وهو لماذا حدث ما حدث؟
الإجابة السطحية هي أن ما حدث كان نتيجة للمضايقات التي تعرض لها أبناء حي الشيخ جرَّاح في القدس.
لكن هل هذه إجابة كافية؟ ولماذا تعرض أهالي ذلك الحي للتهجير من الأساس؟!
ماهي الغاية التي دفعت الاحتلال لذلك؟!
الديموغرافيا بوصفها الدراسات المهتمة بالبحث والتسجيل والوصف والتحليل لحالة السكان وانتشارهم وتركيبتهم الاجتماعية – الثقافية والدينية والعرقية هي الجواب وهي
السبب الرئيس بل والأساسي الذي من أجله يشتغل الغزاة لأن تغيير التركيبة الديموغرافية للسكان بطريقة تخدم مصالح الطبقة الحاكمة (سواءً كانوا غزاة أي قوة احتلال أم لا) تعني ببساطة ضمان أو استمرار حكمهم، والعكس صحيح بمعنى أن تغيير التركيبة الديموغرافية يؤدي بالضرورة الى زوال أي احتلال.
هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع الاحتلال لتهجير أهالي حي الشيخ جرَّاح وهو السبب الذي من أجله يعمل الاحتلال الإسرائيلي منذ قدومه الى فلسطين، ويرتكز الخطاب الديموغرافي الإسرائيلي على فكرة تضخم في عدد العرب (الفلسطينيين) في مقابل استقرار نسبي في عدد السكان اليهود، والمطالبة المستمرة في زيادة عدد اليهود من غير -الحريديم- خاصة، وقد بدأ هذا الحرص من بداية الاحتلال وإعلان قيام دولة إسرائيل ولكن قد تحول الآن الى ما يمكن أن نطلق عليه “ديموغرافوبيا” بمعنى أن هناك هاجس كبير وكبير جدا لدى الاحتلال من التركيبة السكانية في فلسطين عموما وفي القدس على وجه التحديد للحد الذي جعل عملية إنشاء المستوطنات واستيعاب المهاجرين الجدد هي الأولوية الأولى للاحتلال خصوصا اذا ما علمنا أن حوالي 45% من اليهود الموجودين الآن في فلسطين المحتلة هم من المهاجرين الذين لم يولدوا في فلسطين، وهذا الرقم يشير وبشكل كبير الى عدم الاستقرار الذي يشعر به المواطن الإسرائيلي والعوائل
الإسرائيلية، خصوصا بعد مرور أكثر من سبعة عقود على قيام دولة الاحتلال.
وحتى نحاول فهم التركيبة السكانية في فلسطين المحتلة “إسرائيل” ومدى تخوف سلطات الاحتلال من ذلك سنحاول أن نستعرض أرقام بسيطة في هذا السياق
فمنذ قيام دولة إسرائيل أي منذ عام 1948 وحتى اليوم بلغ عدد سكان الضفة الغربية -مثلا- من المستوطنين اليهود أكثر من 650 ألف في حين ازداد عدد العرب “الفلسطينيين” في الضفة بحوالي 3 مليون نسمة!!
وفي فلسطين عموما منذ عام النكسة أي منذ عام 1967 الى 2016 ازداد عدد العرب في فلسطين بواقع 400% وذلك بالرغم من كل الإجراءات التي اتخذها ويتخذها الاحتلال في سبيل وقف هذا التضخم السكاني، في المقابل بلغ النمو السكاني لليهود 280% بالرغم من التسهيلات الغير طبيعية التي تقدمها حكومة الاحتلال في سبيل التشجيع على الإنجاب واستيعاب الهجرات القادمة إليها.
وبما أن نسبة كبيرة جدا من تعداد المستوطنين اليهود في فلسطين هم من المهاجرين فإن هذا سبب رئيسي للديموغرافوبيا الإسرائيلية وذلك لأن نسبة المهاجرين قد
انخفضت بشكل كبير وبصورة مخيفة، يكفي فقط أن نذكر أن عدد المهاجرين الى إسرائيل في السنوات الأولى بلغ أكثر من 250 ألف مهاجر ومهاجرة كل سنة في حين انخفض هذا العدد الى ما دون الـ25 ألف مهاجر خلال الـ10 سنوات
الماضية!!
في مقال سابق تحدثت عن السلبيات الكبيرة التي انعكست على إسرائيل جراء هذه الاعتداءات الأخيرة وواحدة من أهم هذه الأمور هي ظاهرة الهجرة العكسية التي تشكلت منذ بداية الاحتلال وازدادت بشكل كبير خلال فترة الستينات والسبعينات، لكنها بلا شك ستزداد وبشكل ملحوظ خلال الفترة القليلة القادمة، الأمر الذي سيزيد من الديموغرافوبيا لدى إسرائيل وسيعمق من حجم وآثار المشكلة، فلم يعد السبب مقتصرا على القلة الملحوظة في أعداد المهاجرين بل ازداد الأمر سوءًا مع انتعاش الهجرة العكسية التي لم تعد المغريات المالية والجيوسياسية التي تقدمها إسرائيل لمواطنيها الجدد كفيلة بإيقافها .
هذا السبب ربما يكون أحد أهم الأسباب التي سيخسر الاحتلال بسببه نفوذه على الأراضي الفلسطينية، وسيكون أحد أهم الأسباب التي تنهي هذا الاحتلال من الداخل
لكن وبالعودة للأحداث التي دارت في فلسطين وما تعرض له قطاع غزة من قصف، ثمة أسباب أخرى لا يمكننا تجاهلها خصوصا أنها تسببت في حرج كبير جدا على إسرائيل كدولة وتسببت في معاناة كبيرة للشعب الإسرائيلي الذي بقي أكثر من مليون شخص منه في الملاجئ خلال الأيام القليلة الماضية، الحديث هنا عن الصمود الكبير والمقاومة الكبيرة التي أظهرها الشعب الفلسطيني عموما وقطاع غزة على وجه التحديد.
صخرة بُلاي أو كوفادونجا بالإسبانية هي منطقة صغيرة جدا -أصغر من قطاع غزة – تقع في أقصى شمال الأندلس “إسبانيا
حاليا” وهي المنطقة الوحيدة التي لم تصلها جيوش المسلمين والفتح الإسلامي توقف عندها بسبب جغرافيتها الصعبة ووعورة الطرق المؤدية إليها، ومن تلك المنطقة تكوَّنت النواة الأولى لممالك النصارى التي ستأتي على الأخضر واليابس في الأندلس لاحقا، وانطلقت من تلك المنطقة أولى الخطوات فيما عرف لاحقا باسم حروب الاسترداد.
فهل سيكون قطاع غزة.. صخرة بُلاي؟!
هذا ما أثبتته الأحداث الأخيرة على الأقل وهذا بلا شك ما يجول في فكر العقلاء في إسرائيل الآن.