شدوى الصلاح
بمشروع استثماري بـ8 مليارات دولار.. قدمت الإمارات بين مارس/آذار، وأبريل/نيسان الماضي مبادرة لتسوية الأزمة الحدودية بين السودان وأثيوبيا حول منطقة الفشقة الحدودية التي يستغلها مزارعين إثيوبيين بحماية مسلحين إثيوبيين، رغم وقوعها داخل حدود السودان.
ورغم تكتم الحكومة الانتقالية على كامل نصوص المبادرة الإماراتية والاعتماد على التسريبات وتصريح مقتضب من وزير المالية جبريل إبراهيم، بدت المبادرة وكأنها تطالب السودان بالتنازل عن أراضيها لإثيوبيا والإمارات مقابل عقود استثمارية طويلة الأجل.
وبحسب معلومات مؤكدة من الوفد الحكومي، تحمل المبادرة “رغبة الإمارات في انسحاب الجيش السوداني إلى وضع ما قبل نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، الذي انتهى بتمكن القوات السودانية من استعادة أراضي منطقة “الفشقة” الحدودية بالكامل، بعدما كانت تسيطر عليها ما وصفتها بأنها ”مليشيات إثيوبية”.
كما تتضمن المبادرة أيضا تقسيم الفشقة بنسبة 40% للسودان و40% للإمارات و20% للمزارعين الإثيوبيين، تحت إدارة مشروع استثماري تقيمه الإمارات في المنطقة الحدودية.
وقوبلت المبادرة الإماراتية برفض شعبي واسع، لأنها تقضي بتفريط السودان في أرضها وتطلب تنازلات تتنافى مع حقوقها التاريخية في أراضي الفشقة، ووجهت اتهامات للإمارات بأن المبادرة تدعم مصالحها مع إثيوبيا وتزيد نفوذها في منطقة القرن الأفريقي، لخدمة الاحتلال الإسرائيلي.
ودفع الرفض الشعبي السوداني الإمارات لسحب مبادرتها أمس الإثنين 24 مايو/أيار 2021.. مما أثار تساؤلات عدة حول حقيقة أهدافها من خلق الفتنة في السودان؟ وأسباب تبنيها مبادرات تخدم إثيوبيا على حساب الشعب السوداني؟ وأسباب تقدمها للمبادرة وسحبها؟.
وللإجابة على هذه التساؤلات وتحليل مآلات الأحداث، وقراءة التصرفات الإماراتية وتقييم ردة الفعل الشعبية وتعامل السلطة السودانية مع الطرح الإماراتي، حاورت “الرأي الآخر” خبير التخطيط الاستراتيجي وإدارة الأزمات الدكتور يحيــى الحسن.
إليكم نص الحور
مبادرة “صهيوإمارتي“
** بداية عرفنا على منطقة الفشقة الحدودية؟
الفشقة أرض سودانية تقع في المنطقة المتاخمة للحدود الإثيوبية السودانية، وهي شديدة الخصوبة، تخترقها العديد من الأنهار الموسمية، وخلال الفترة الأخيرة قام الجيش السوداني بإعادة الانتشار فيها بعد أن طفح الكيل من الاعتدادات المسلحة المتكررة من مليشات “الشفتا الإثيوبية” على المزارعين السودانيين وقتلهم وأسرهم والاعتداء على قوات من الجيش السوداني.
** إذا كانت الفشقة الآن تحت سيطرة السودان فما دور المبادرة الإماراتية؟
ما كاد الجيش يفرض سيادته على الفشقة حتى بدأت تحاك المؤامرات عبر ما يسمى المبادرة الإماراتية والتي جاءت حاملة السمّ بين طياتها.
فوثيقة المبادرة المسربة جاءت تحت مسمى “مبادئ أساسية لمسودة الاتفاق الإطاري حول الشراكة والتعاون التنموي” وأوضحت أن الغاية الأساسية لهذا الاتفاق تشمل “تأكيد الحدود وحقوق مجتمعات المزارعين الإثيوبيين بمنطقة الفشقة”.
وفي مقدمتها قامت على مسلمات معروفة لوضع العلامات الحدودية وفق الحدود المرسومة والمتفق عليها، إلا أنها لم تشر صراحة لاتفاقية العام 1902م ذات الأهمية الكبرى في هذا الخصوص، وتجاهلتها تماماً لشيء في نفسها ونفس الأثيوبيين، وأشارت فقط للمذكرات المُتبادلة بين حكومتي السودان وإثيوبيا في العام 1972م عن توفيق أوضاع المُزارعين الإثيوبيين وهي لا تقرأ إلا ومعها اتفاقية 1902، وهي بذلك تستبعدها.
وفي تقديري أن هذه المبادرة ما هي إلا نسخة من وعد بلفور يتجدد عبر وكيل الصهاينة حكومة الإمارات وهو إهانة للشعب السوداني الحر الأبي وازدراءً لسيادته وحقوقه.
وهذه المبادرة الوضيعة لم تكن أبداً أمراً طبيعياً، فالارتهان للخارج الإماراتي والتفريط في سيادة السودان وأراضيه والاحتلال للفشقة يظهر فيما تم تسريبه من هذه الاتفاقية المشبوهة.
** ولماذا تراها حاملة السم في طياتها؟
لأن أخطر ما في هذه المبادرة أن تنفيذ هذه الحدود يتم بما لا يعيق ممارسة حقوق مجتمعات المزارعين الأثيوبيين وهي بذلك تقرر وتمنح حقوقاً للمزارعين الأثيوبيين في الأراضي السودانية والاعتراف بهم وحماية مجتمعاتهم، وجعلت لهم حقوق متساوية مع السودانيين باستخدامهم وشغلهم على الأرض وحق الإقامة والتنقل بل الحق في الثقافة والتمثيل.
ويعني ذلك السماح لهم بممارسة جميع الحقوق الدستورية كما لو كانوا سودانيين، وربما حق الانتخاب أيضاً، وهذا عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
أما الطامة الكبرى، فيحدد عقد الشراكة المسرب نسبة 50% للشركة الإماراتية من الأرض و25 % منها لكل من المزارعين السودانيين، وأخرى للمزارعين الأثيوبيين، وهذه ليست قسمة وإنما هي “الاحتلال بعينه”، ويكمن الخطر في هذه الصفقة أو بالأحرى الصفعة للسودان في أنه لا يجوز الانسحاب الأحادي منها.
كما منحت المبادرة حق عبور الحدود الدولية بين البلدين دون أي عوائق مما يعني استباحة حدودنا وجعلها دون رقابة أمنية عليها ليدخل من يشاء كيفما ووقتما يشاء، وللإمارات في ذلك مآرب أخرى خاصة في ظل التوتر الذي يسود المنطقة، وتعاملاتها المشبوهة من الشركات العسكرية الخاصة المسلحة.
** لكن المبادئ المسربة للمبادرة الإماراتية حددت احتفاظ الطرفان بوجود أمني على أراضي سيادة كل منهما؟
نعم وهي عبارة فضفاضة فما المقصود بذلك هل هي الفشقة أم ما عداها من أراضي البلدين؟
** تسرب أيضا من بنود المبادرة أن الإمارات كانت ستلعب دور المراقب لبناء الثقة بين السودان وأثيوبيا، فهل هي أهل لذلك؟
في تقديري أن الإماراتيين ليسوا بمراقبين وإنما لتوطيد دعائم دولتهم الجديدة في خاصرة شرقنا الحبيب وتكريس وجودهم كما فعلوا في اليمن “سقطرى” وليبيا وغيرهم، وتنفيذاً للأجندة الصهيونية في المنطقة.
لا للارتهان للخارج
** وما تقيمك للبنود المسربة المتعلقة بالتأجير للمزارعين؟
المبادرة الإماراتية المسربة أوضحت أن يتم تخصيص نسبة من الأراضي للمزارعين الأثيوبيين بعقود مُلزمة مع الشركة الإماراتية ويتم الاتفاق على مُستندات إثبات الشخصية أو جوازات وتواجد قنصلية إثيوبية (ونلاحظ هنا أن الاتفاق مع الشركة الإماراتية وليس مع حكومة السودان، فكيف لشركة أجنبية أن تقوم بالتصرف في أراض سودانية لأفراد أجانب وتخصص لهم أراضي زراعية يملكها سودانيون يقومون بزراعتها من مئات السنين، ومن أين لها بهذه السلطة السيادية للتصرف كشركة أجنبية في الأراضي السودانية؟؟).
أما الأدهى والأمرّ أن تقوم ذات الشركة بتخصيص مساحة مماثلة للمزارعين السودانيين الذين كانوا يزرعون أيضاً في المنطقة، بالله عليكم مالكم كيف تحكمون، شركة إماراتية تقوم بتخصيص أراض زراعة سودانية يمتلكها مزارعون سودانيون لذات مُلاكِها السودانيون وتمنحهم فقط 25% من أرضهم.
وفي كلا الحالتين للتخصيص تصبح الشركة الإماراتية ذات سيادة على أراضي الفشقة، فمن أين لها سلطة التوزيع والتخصيص للأثيوبيين والسودانيين؟ وما هدفها من هذه القسمة المجحفة في تقديري إلا إثارة ملاك الأراضي ودفعهم دفعاً للتمرد والإخلال بالأمن دفاعاً عن ممتلكاتهم وأرضهم.
** هل تعني أن الإمارات تسعى لفرض سيادتها على السودان؟ ولماذا؟
لم تكن صدفة أن تُـلــقِ حكومة الإمارات بثقلها هذه الأيام إحكاماً لفرض وصايتها على السودان وتقويض ثورتة الشعبية التي رفعت شعار الحرية والسلام والعدالة وتحقيق الحكم الديمقراطي الرشيد، وذلك ضمن حربها في مواجهة الثورات الشعبية التي قامت في العديد من الدول العربية رفضاً للظلم والاستبداد والجهل والتخلف.
** هل توجد علاقة بين ملف الفشقة وسد النهضة؟
تختلط الأوراق هنا وتتقاطع المصالح خاصة وأن مطامع الأمهرة تحديداً وعصابات الشفتة الأثيوبية واستغلال رئيس الوزراء الأثيوبي آبي احمد، لهم لتحقيق مطامعه وكذلك نائبه وقادة الجيش واستثماراتهم في الفشقة باعتقادهم أن الأرض ملكهم.
وفي ذات الوقت استغلال موضوع سد النهضة ليصنع شعبية له وسط القوميات الأخرى التي لا تؤيده في أثيوبيا بحجة أنه يحمي حقوقهم فيها وإيهامهم بحماية حق أثيوبيا في انتاج الطاقة من سد النهضة.
ويعتقد الأثيوبيين أن تحرك السودان لبسط سيادته على الفشقة له علاقة بسد النهضة للضغط عليهم في موضوع السد ولإلزامهم بالاتفاق القانوني قبل ملء السد الثاني وأن السودان يسعى لتحجيمهم ومنعهم من استغلال مواردهم المائية كما يدعون، وهذا الفهم خاطئ تتعمد السلطات الإثيوبية بثه وسط شعبها لتجد السند الشعبي منهم في حين أن ذات حكومات أثيوبيا المتعاقبة تعلم علم اليقين أن الفشقة أراض سودانية.
** ماذا تستفيد الإمارات من دعم إثيوبيا؟
الإمارات حليف رئيس للنظام الأثيوبي ولآبي أحمد، وهناك من يرى أنه طلب من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، التدخل لمعالجة موضوع الفشقة والذي بدوره استغل الفرصة لتنفيذ أجندة الصهاينة في المنطقة فكلف مستشاريه كمحمد دحلان لوضع هذه الاتفاقية الخبيثة ولترضية مرتزقته والعمل على حفظ مساحات من أراضي الفشقة للأمهرة.
الإمارات تحركت لإنقاذ حليفها آبي أحمد الذي يواجه السقوط الوشيك والانقلاب عليه من قومية الأمهراء وإنقاذه من الموقف الصعب الذي يواجهه، ولكسب أثيوبيا كحليف استراتيجي في القرن الأفريقي، من خلال الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي.
التدخل الإماراتي “المشبوه” في إثيوبيا وجميع دول القرن الإفريقي لتنفيذ أجندتها وأجندة كفيلتها إسرائيل وسعيها في إذكاء الحرائق أصبحت تتمدد تداعياتها لتشمل حلفاءها في الرياض، والقاهرة، إضافة إلى الحكومة الانتقالية في الخرطوم.
تدخل الإمارات في الشؤون الداخلية ليس حديثاً ولعل أخطره دورها في الحرب الأهلية الراهنة في أثيوبيا، حيث اتهمتها جبهة تحرير شعب تيغراي، باستخدام طائرات إماراتية مسيرة انطلقت من قواعد إريترية، قامت بقصف قواتها.
ومن أهم ما تحققه وتستفيد منه الإمارات من دعم إثيوبيا:
- تحقيق مصالحها في القرن الأفريقي وإن كان ذلك على حساب حلفائها.
- حفظ مصالحها واستثمارها في سد النهضة.
- التدخل لإيجاد مواقع استراتيجية في القرن الأفريقي، تحت ذريعة القضاء على الحوثيين في اليمن.
- توسيع نفوذها السياسي في هذه المنطقة الحساسة للأمن الخليجي والمطلة على ممر مائي حيوي (البحر الأحمر) للتجارة العالمية، والسيطرة على طرق الملاحة في مضيق باب المندب القريب من ميناء عصب الإريتري، بدعوى مواجهة النفوذ التركي وغيره، وسيطرتها من خلال شركة موانئ دبي على إدارة الموانئ في القرن الأفريقي وخليج عدن.
- يعتبر القرن الأفريقي منطقة واعدة لاستثمارات أبو ظبي، وفيه الكثير من الفرص مما جعل الإمارات تدعم مشروع سد النهضة، ولكسب إثيوبيا كحليف قوي يرسخ أقدامها، ويطلق يدها ليس في القرن الأفريقي فحسب، وإنما في أفريقيا كافة ولعل أولى خططها تدخلها في السودان وفي منطقة الفشقة واحتلالها.
- تثبيت الدور الإماراتي كحليف إستراتيجي للرئيس الإريتري أسياس أفورقي، وتموضعها الجيواستراتيجي على البحر الأحمر، لتطال الأخطار الإماراتية عبر هذا التحالف القرن الأفريقي والسودان والسعودية وغيرهما أيضا، كما يشكل دعمها لأفورقي تنفيذ خططه في مثلث الحدود بين إريتريا والسودان وإثيوبيا، لأنها تعي جيدا أن المستهدف بهذه التطورات السريعة هو الحدود السودانية.
- تواجدها في المنطقة يساعدها في تحقيق الأجندة الصهيونية، كما يدعم سعيها للحد من النفوذ الكبير لخصومها الإقليميين في المنطقة.
** وما هي مآلات التدخلات الإماراتية وأهدافها من تقسيم الفشقة بين الأثيوبين والسودانيين؟
بحسب ما كشفته وثيقة المُبادرة الإماراتية وما نراه فإن مآلاتها مستقبلاً وما ستقوم به من تشييد للبُنى التحتية وتكريس الوجود الأثيوبي ربما إعادة توطين اليهود الفلاشا فيها، وتنم عن نيتها في اقتطاع هذه المنطقة وجعلها دويلة قائمة بذاتها تحقيقا للمخطط الصهيوني في تقسيم السودان لخمس دول.
ولتكون نواة لانفصال شرق السودان والسيطرة على موانيه على البحر الأحمر وخلق بؤر للتمرد المسلح من أصحاب المنطقة والرافضين لبيع الفشقة والارتهان للإمارات الوكيل الرسمي للكيان الصهيوني لتفتيت المنطقة العربية، فالامارات ما هي إلا أداة تنفيذ وتمويل لهذا المخطط.
وبذلك يصبح شرق السودان عُرضة للانفجار المسلح على طول حدود السودان مع إثيوبيا وخاصة ولايات القضارف وكسلا وبورتسودان، بسبب الأجندة الإقليمية التي تدعمها أبو ظبي وأسمرا في ظل حرب التيغراي التي يدعمانها، وتعقد الوضع في إثيوبيا الذي قد ينتهي بوأد التجربة الفيدرالية فيها وانعكاسات كل ذلك على دول القرن الأفريقي.
** وأين الحكومة السودانية من كل ذلك؟
المبادرة التي قدمتها الإمارات صفعة لحكومة السودان وقواته المسلحة التي بذلت الأرواح دفاعاً عن سوداننا وحدودنا الشرقية وتحرير الفشقة التي تسعى لاحتلالها، ولها نقول:
“يا من ائتمناكم الشعب وثواره الأحرار على السودان والحفاظ عليه ارفعوا رؤسكم فخلفكم شعب عظيم لا يهاب المخاطر والصعاب، لا يرتضي الذل والهوان، فظهركم مسنود إلى جبل أشمّ أحذروا غضبته إذا ثار، وتباً لكل عميل خائن للوطن وللأمة”.
** وإذا كان كل ما سبق وذكرته سيعود بالنفع على الإمارات فلماذا سحبت مبادرتها وماذا يعني سحبها؟
ذلك نتيجة الضغط الشعبي الهائل خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي و الوقوف صفاً واحداً ضد المبادرة الإماراتية ووقف بيع أرض عزيزة على الشعب السوداني الحر فما كان من الإمارات إلا أن سحبت مبادرتها.
ونرجو أن يكون سحباً حقيقياً لها وليس انحناءه لحين هدوء عاصفة الغضب وسط الشعب السوداني ومنظمات مجتمعه المدني ولوقف التصعيد المتواصل ضدها والذي كشف حقيقتها أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي.
ونتمنى ألا تلجأ للالتفاف والخداع ومواصلة دعم أثيوبيا من خلف الكواليس وتمرير أجندتها الخبيثة، وإذا فعلت ذلك فالشعب بالمرصاد لكل حيلها ولكل عملاء الداخل والخارج.
تعليق واحد
?