فهد الغويدي
لطالما اعتبرت السعودية نفسها الدولة الإسلامية الأولى في المنطقة، تعتبر الكتاب والسنة مصادر تشريعها وتتفاخر بهذا التوصيف الذي لازمها لعقود طويلة وبقيت طوال هذه العقود تستمد شرعيتها السياسة منه، وكبرت وترعرعت أجيال على هذه الفكرة وذلك بغض النظر عن حقيقتها لكنها مطبقة ظاهريا على الأقل.
ومن أبرز العلامات الظاهرية على هذه الصبغة التي استفادت منها الدولة السياسية أكثر بكثير من الجناح الديني فيها هي كثرة المساجد ورفع أصوات الأذان فيها حتى باتت هذه النقطة تمثل علامة فارقة تتميز بها البلاد ونقطة جدل يستثمرها دوما أولئك المدافعين عن النظام.
بعد القرار الذي أصدره النظام السعودي “أقول النظام وليست وزارة الشؤون الإسلامية لأن قرَّاء هذه الصحيفة يتمتعون بالذكاء الكافي الذي يخولهم لمعرفة أن القرار جاء من قبل النظام وليس للوزارة إلا التنفيذ والتبرير” حول (خفض) أصوات الأذان والخطب وجهت السلطة السياسية ضربة أخرى موجعة للتيار الديني والسلطة الدينية في البلاد، لأن الأمر لا يمكن أن يؤخذ بمعناه الظاهري والنظر إليه بشكل متجرد دون الأخذ بالاعتبار التوجه العام للدولة.
هل يقف معنى القرار عند هذا الحد فقط أم إن له أبعاد أخرى أكثر عمقا وأكثر أهمية؟!
لا شك أن القرار له أبعاد أخرى لعل أهمها التخلي (شبه الرسمي) عن الهوية الدينية للبلاد، وربما يقول البعض أن هذا الطرح متطرف أو على الأقل سابقا لأوانه، ولكن الحقيقة أن الموضوع لا يقتصر على (خفض) صوت الأذان أو حتى أن يقتصر عمل مكبرات الصوت على داخل المساجد بمعنى ألا يُسمع صوت الأذان إلا لمن هم داخل المسجد، كما هو معمول به في العديد من الدول الإسلامية، لكنه متعدي بطبيعة الحال بسبب خصوصية الموضوع في السعودية.
ولا استبعد أن يكون هذا القرار تمهيدي لقرار آخر مرتقب وهو السماح للمحال التجارية بالعمل أثناء الصلاة، وهو ما روَّج له العديد من الكتاب في السعودية منذ تولي الملك عبد الله السلطة في البلاد بداعي أن الأمر الديني المتعلق بمنع البيع والشراء مقيِّد بيوم الجمعة دون غيره وأن إطلاق هذا التقييد على بقية الصلوات اليومية يعد من الغلو في الدين.
صحيفة التايمز البريطانية نشرت خبر خفض صوت الأذان في السعودية وعلقت عليه بأنه يعتبر علامة أخرى على فقدان المؤسسة الدينية في السعودية للسلطة في عهد الأمير محمد بن سلمان.
والواقع أن السلطة الدينية خسرت موقعها الهام والحساس داخل المجتمع السعودي قبل مجيء محمد بن سلمان للسلطة بزمن بعيد ولا أدل من ذلك مقدار ما تعنيه الفتوى الدينية في السبعينات والثمانينات داخل المجتمع مقارنتا بمطلع الألفية، ومدى تأثير علماء الدين آن ذاك مقارنتا باليوم، ويمكن القول إن مفهوم السلطة الدينية في السعودية قد انحسر بشكل كبير بعد وفاة الرجلين الأكثر بروزا وتأثيرا وهما ابن باز وابن عثيمين.
أما قرار (خفض الأذان) فليس مقياس لمدى تأثير السلطة الدينية في البلاد، بل مقياس على مدى الانسلاخ من هوية المجتمع أكثر من أي شيء آخر، والهوية هنا المقصود بها مجموعة المبادئ والقيم التي نشأ عليها المجتمع وشكلت ضميره وثقافته وكوَّنت خصوصيته.
أتذكر في هذا السياق مقالا نشر في صحيفة الجزيرة للكاتب محمد آل الشيخ تحدث فيه عما أسماه “وهم الخصوصية السعودية” وذكر في مقاله ذاك أن مفهوم “الخصوصية السعودية” وهم صنعه تيار الصحوة وقد تسبب في إعاقة المسيرة التنموية وإضعاف بناء الإنسان المعاصر!!
ولو سألنا الكاتب عن ثقافة المجتمع الفرنسي مثلا أو هوية المجتمع الفرنسي لأجاب بكل وضوح أنها هوية علمانية فهل تسببت الهوية العلمانية أو الخصوصية العلمانية في إضعاف الإنسان الفرنسي المعاصر! أو أن الهوية المسيحية في المملكة المتحدة حالت دون تطور وتقدم المسيرة التنموية فيها؟!
بالرغم من أن العديد من الدول المسيحية تحولت إلى دول علمانية واعتمدت الفصل بين الكنيسة والدولة، إلا أن المنظمات الكنسية لا تزال تتمتع بنفوذ كبير في مؤسسات هذه الدول، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمعاهد وحتى الجامعات، ولا بأس في ذلك فلكل دولة مجتمع ولكل مجتمع ثقافة وهوية معينه قد تعارف عليها وشكلت النسيج الضام الذي يربط المجتمع بل ويقدمه للعالم.
محمد آل الشيخ ليس الوحيد فالعديد من الكتاب تناولوا فكرة “الخصوصية السعودية” للنيل من “الهوية السعودية” وهي هنا الإسلام، وقد أتيح لهم المجال من قبل السلطة السياسية للحديث حول هذا الموضوع كما اتيح المحال للعديد من الإعلاميين عبر الإعلام الرسمي أو البديل للنيل من الهوية الإسلامية للمجتمع ومحاولة طمس هذه الهوية.
والإشكال الحقيقي هنا أن “الخصوصية السعودية” لم تأت من فراغ بل جاءت على ضوء تشريف البلاد باحتضان الحرمين الشريفين وبأنها – أو على الأقل يجب أن تكون – منارة للعالم الإسلامي، وبناءً عليه يكون الانسلاخ من الهوية الدينية يعني التخلي عن القضايا الإسلامية والإرث الديني الإسلامي!!
وهنا يتخلى المثقفون عن رسالتهم الأسمى ويمارسون خيانتهم بمجرد رؤية هذا العبث وإدراك خطورته ثم الصمت فكيف إذا كانوا مشاركين في هذه الجريمة الحضارية التي سيمتد أثرها لأجيال كثيرة قادمة لا تستطيع إدراك هويتها بل لا تستطيع تمييز ذاتها وهنا يكون إضعاف الإنسان المعاصر وتعطيل المسيرة التنموية.
ومما لا شك فيه أن استخدام مصطلح “الهوية السعودية” أو “الخصوصية السعودية” في ممارسة قمع أو حرمان من حقوق قد أضر بالدين بشكل كبير، فلا ننكر أنه سبق واستخدم من قبل البعض في حرمان المرأة من حق إصدار بطاقة هوية أو حرمانها من قيادة السيارة لكن هذا لا يعني أن يكون الحل هو عبر طمس الهوية بشكل كامل والقفز عليها وتجاوزها!!
صوت الأذان حتى وان حاول البعض تبرير خفضه أو كتمانه بحجج واهية كإزعاج المرضى (الذين لا تزعجهم أصوات السيارات خارج المستشفيات والمراجعين داخلها ولا يؤرق مضاجعهم مستوى الرعاية الصحية المتهالك في البلاد، ولا تقلق راحتهم أصوات الحفلات الراقصة وغير الراقصة) وحتى لو حاول البعض الآخر الاتكاء على فتاوى دينية من شأنها إجازة القرار بل واعتباره أنه هو الأصل كما قال بذلك الدكتور عمر العمر (وكأن القوم كانوا في غفلة عن هذا منذُ اختراع مكبرات الصوت وقدومها للسعودية)
أقول صوت الأذان من الأمور التي شكَّلت هويتنا التي نفتخر ونعتز بها ومن الأشياء الجميلة التي لا أزال أتذكرها وأَعرِف وأُعرِّف بلادي بها