كتب: عبدالباسط سيدا
أطفال ونساء وشيوخ تائهون لا يعرفون ما العمل وإلى أين يتجهون، يصارعون الماء الملوّث والطين، ويترقّبون المجهول المبهم؛ وذلك كله في عالمٍ رقميٍّ يسجّل أدقّ التفصيلات التي يتابعها أصحاب القرار والصحافيون وملايين الناس، ولكن على الرغم من ذلك باتت المحنة السورية المستمرّة منسيةً بكل أسف.
معاناة النازحين واللاجئين السوريين ممن أجبروا على اتخاذ المخيمات ملاذاً لهم كارثية بكل المقاييس والمعاني؛ وهي لا تقتصر على المشاهد المرعبة التي تطالعنا بها وسائل الإعلام في كل شتاء مع بداية موسم الأمطار والثلوج؛ بل تشمل جميع مناحي الحياة؛ بدءاً من تأمين الطعام اليومي والصحة والتعليم، مروراً بالظروف الطبيعية القاسية صيفاً وشتاء؛ إلى جانب المشكلات والآفات الاجتماعية والنفسية، فضلاً عن الانتظار القاتل وغياب الأمل.
عشرة أعوام والأهل في المخيمات ينتظرون. هذا في حين أن بلدَهم قد تحوّل إلى مناطق نفوذ تتقاسمها الجيوش والمليشيات والمافيات، وشذّاذ الآفاق من مختلف الجنسيات. أما المجتمع الدولي، إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح الهلامي الفضفاض، فقد تكيّف مع الوضع السوري، وانشغل بأمور أخرى أهم، وذلك وفق حسابات دوله وأولوياتها. وهذا ليس أمراً جديداً أو مستغرباً، إذا ما عرفنا أنّ هذا المجتمع، ومنذ البداية، اكتفى بـ “إدارة الأزمة”، وما زال يعمل بالعقلية ذاتها، فكلّ ما يريده هذا المجتمع اليوم ألّا يسمع أخبار القتل والتدمير على نطاق واسع. أما عمليات القصف محدودة النطاق من الروس، وحالات الاغتيال والاعتقال والتغييب من قوات بشار وأجهزته القمعية والمليشيات الداعمة له، فهي لا تستوجب تحرّكاً أو معالجة، طالما لا تبثها شبكات الإعلام العالمية.
حتى أعداد الضحايا التي تتحول مجرّد أرقام يتم التلاعب بها كي لا تشكل ضغطاً على الرأي العام، فالأمم المتحدة تعلن على لسان مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، أنّ عددهم هو في حدود 350 ألفاً، ولكنها تعترف، في الوقت ذاته، بأنّ العدد الحقيقي هو أكبر. هذا في حين أنّ تقديرات السوريين تشير إلى تجاوز هذا الرقم عتبة المليون، وما نعنيه بذلك كلّ السوريين الذي كانوا ضحية تمسك بشّار الأسد بالحكم، وإعلانه الحرب على السوريين، بدعم من رعاته الإيرانيين والروس.
يعترف الوسيط الأممي، غير بيدرسن، في إحاطته أخيراً قبل أيام أمام مجلس الأمن، بأنّه لا يمكن للسوريين وحدهم معالجة وضعهم، وهو يدعو إلى إسهام الفاعلين الدوليين في ذلك. هذا في حين أنّه يعلم تماماً أنّ هؤلاء الفاعلين هم سبب كل ما لحق بالسوريين من أهوال، فملايين السوريين هم في المخيمات. و14 مليون سوري يحتاجون المساعدات الإنسانية العاجلة، وفق تقديرات بيدرسن نفسه، بينما العدد الفعلي هو أكبر، فسوريون كثيرون يضغطون على جراحهم، ويترفعون عن السؤال مع مشروعيته في الحالة السورية، لأنّ الجوع كافر كما يقول المثل.
لولا التدخل الإيراني مع أذرعه من المليشيات المذهبية اللبنانية والأفغانية والباكستانية، وتدخل المليشيات “العلمانية” المرتبطة بحكم بشار وبإيران، وفي المقدمة منها حزب العمال الكردستاني، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والشبّيحة المحلية المدعومة إيرانياً؛ لولا هؤلاء لسقط حكم بشّار بالتظاهرات والاعتصامات السلمية والانشقاقات من الجيش والمؤسّسات الحكومية في الأشهر الأولى من الثورة السورية عام 2011. ولو التزم الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، بوعده الذي قطعه بنفسه على نفسه بخصوص السلاح الكيميائي، لسقط بشار عام 2013، كما اعترف الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، أخيراً، فقد أكد الرجل أنّه لم يكن في ذلك الحين أي إرهاب في سورية، لكنّ أوباما الذي كان قد قرّر، عن سابق قصد وتصميم، عدم التدخل، كان يبحث عن كلّ الحجج والذرائع من أجل ألّا يتدخل، فالرئيس هولاند صادقٌ في ما ذهب إليه، وهذا هو الانطباع الذي خرجنا به عنه بعد لقائنا به في الأليزيه صيف عام 2012.
أما حجة أوباما التي ساقها من أجل عدم التدخل فهي أنّ المزارعين والأطباء والمهندسين لا يمكن أن يكونوا بديل الحاكم الذي تسبب في قتل أكثر من مليون سوري، وشرّد نصف الشعب، وجوّع نصفه الآخر، ودمّر الاجتماع والعمران. هذا بينما كان الموقف الأخلاقي المسؤول يلزم أوباما بالاعتراف بشجاعة المدنيين السوريين من جميع الانتماءات، واحترام بطولاتهم وتضحياتهم وتطلعاتهم؛ وهو الذي كان قد وصل إلى ما وصل إليه بفضل قيم النظام الديمقراطي التي تجسّد تطلعات سائر الشعوب المغلوبة على أمرها.
ولولا التدخل الروسي لسقط النظام عام 2015؛ بل لولا سلبية المجتمع الدولي بصورة عامة لما كان الإرهاب والعنف، وما كان كلّ هذا القتل والتدمير. لم يساعد المجتمع الدولي السوريين لإنهاء محنتهم، ولم تساعدهم الدول الفاعلة على المسرح الدولي؛ وهي الدول نفسها التي اتهمها، ويتهمها، بشّار باستمرار بأنّها أركان المؤامرة الكونية على حكمه الفاسد المفسد؛ ركن محور “المقاومة والممانعة” مع نظام ولي الفقيه وحزب الله، فما أعلنته هذه الدول أنّ الأزمة السورية لن تعالج بالحلول العسكرية. وبناء على ذلك، لم تقدّم للسوريين ما كان يمكّنهم من وضع حد لعربدة الطائرات البدائية التي كانت تقصف والمدن والبلدات السورية ببراميل البارود والحقد على مدى أعوام، وأمام مرأى العالم أجمع ومسمعه. ولكنّها في الوقت ذاته لم تمارس الضغوط المطلوبة التي كانت ممكنة، لإرغام بشّار الأسد على الجلوس إلى مائدة المفاوضات الفعلية، وليست الشكلية التي لم تؤدِّ منذ بداياتها عام 2014 إلى أي تقدّم. كما أنّها لم تؤدّ إلى أي إحراج لحكم بشار، كما يروج أحياناً بعض أتباع “الواقعية السياسية” من السوريين.
واليوم يعرف بيدرسن الذي ورث تركة ثقيلة عن سلفه دي ميستورا، في قرارة نفسه، أنّ اللجنة الدستورية ما هي إلّا هرطقة، وأداة لتمرير الوقت، في انتظار توافقات الفاعلين. وقد أعلن عن ذلك بوضوح في إحاطته أخيراً أمام مجلس الأمن، وأشار، في هذا السياق، إلى اجتماعات دولية تعقد في جنيف، تشارك فيها الدول الفاعلة في الملف السوري حول سورية وفي غياب السوريين، وربما تكون هناك اجتماعاتٌ في أماكن أخرى، وهذا فحواه أنّ القرار في الملف السوري هو بيد الدول، سيما التي تتقاسم البلد بينها، وتستخدم المليشيات لتكون البيادق الأرخص كلفة، والأقل مسؤولية، والأسهل بيعاً وقت اللزوم، فالملف السوري بات ورقة ضغط في ملفاتٍ أخرى، ولم يعد الملف الملحّ الذي يستوجب المعالجة العادلة التي تمكّن السوريين من العيش الكريم في بلادهم في منأىً عن القتل والتدمير والفساد.
وفي هذه الأجواء، جاءت صرخة السفير السعودي، عبد الله المعلمي، في الأمم المتحدة، أمام اجتماع الجمعية العامة في نيويورك؛ صرخة لا تصدّقوهم، التي كرّرها كثيراً من باب التأكيد، وهو الخبير العارف بطبيعة أكاذيب سلطة بشّار ورعاتها. وقد جاءت هذه الصرخة لتتماهى مع لسان حال السوريين الذين يعيشون، منذ أكثر من عقد، جحيماً على الأرض، خصوصاً في المخيمات، بينما لا تصدّق آذانهم وأعينهم التصريحات والأخبار التي تتحدّث عن التطبيع العربي الرسمي مع حكم بشار، فالمعلمي يدرك تماماً أنّ بلاده، السعودية، ستكون بين أكثر المتضرّرين من استمرار بشار الأسد في الحكم، فهو يعد حجر الزاوية في المشروع التوسّعي الإيراني الذي يستهدف زعزعة استقرار دول المنطقة ومجتمعاتها.
أما إذا تمكّن السوريون من تقرير مصيرهم كما يتطلعون، وبما ينسجم مع مصالحهم الحقيقية، وحرصهم على مستقبل أجيالهم المقبلة، فإنّهم سيكونون فاعلاً مهماً في عملية إعادة التوازن إلى المعادلات المختلة في المنطقة. وما يحصل اليوم في العراق ولبنان واليمن، وحتى في ليبيا والسودان وتونس، إنّما هو نتيجة التدخلات الأجنبية، سيما الإيرانية منها، وهي تدخلاتٌ لن تتوقف طالما هناك غيابٌ مستغربٌ للعاملين الوطني والعربي. وقد كان تفاعل السوريين الإيجابي، وعلى مختلف المستويات، مع كلمة المعلمي مؤشّراً لافتاً يفهم منه أنّ التعويل الأكبر ما زال على الموقف العربي عبر السعودية، وذلك لإدراك السوريين أهمية الموقع الذي تحظى به السعودية على الصعيدين، العربي والإسلامي، وعلى المستويين، الإقليمي والدولي.
ولكنّ ذلك لا يعفي السوريين أنفسهم من المسؤولية، فالتحدّيات التي تواجههم كبيرة، بل وجودية، وهي تهدّد وحدتهم، ووحدة بلدهم. وليس صحيحاً أنّهم مهما فعلوا قد أصبحوا خارج دائرة التأثير، ولن يعودوا إليها. ولكن إذا استمرّت المنازعات والانقسامات بين السوريين المناهضين لحكم بشار الأسد، وهم الأغلبية المؤثرة، فهذا معناه مزيد من المعاناة ليس في المخيمات وحدها، بل على مستوى سورية بأسرها.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”