كتب: أنيس فوزي قاسم
طرح المرحوم ياسر عرفات شعار «القرار الوطني الفلسطيني المستقل» وأصبح شعاراً ثابتاً للثورة الفلسطينية والقيادة الفلسطينية، وكان أبو عمار يتمسك به تمسكاً شديداً، ويطرحه في كل المناسبات والمؤتمرات. ومن المعلوم أن القصد من الشعار هو النأي بالقضية الوطنية عن المشاحنات العربية ـ العربية، وصون القضية من أن تكون ورقة مساومة لبعض الأنظمة، مقابل أثمان مثل إنقاذ النظام القُطري مقابل التنازل عن فلسطين، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي. ومن هنا اكتسب شعار استقلالية القرار الوطني، احتضاناً شعبياً واسعاً، لاسيما وأن القيادة كانت تحظى بتأييد ومصداقية.
وحين وقعت جريمة غزو الكويت عام 1990، تبيّن أن اللجنة التنفيذية لم تتخذ قراراً بتأييد الغزو الآثم، بل الذي اتخذ القرار هو ياسر عرفات بمفرده، رغم اعتراض بعض أعضاء اللجنة التنفيذية، وكان ذلك القرار الفردي هو مناط النقمة الكويتية على القيادة الفلسطينية. وحين استخدم النظام العراقي بعض العناصر البعثية من فلسطينيي العراق في احتلال الكويت، ووجودهم في بعض مراكز التفتيش، ثارت نقمة بعض الكويتيين على فلسطينيي الكويت – وهذه من آثار القرار المستقل الذي استخدم على نحو فردي وغير رشيد.
وتوضحت حقيقة القرار المستقل، حين بدأنا نقرأ اتفاقيات أوسلو، ابتداء من الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير وإسرائيل، الذي جاء على نحو غير مسبوق في الدبلوماسية الدولية، لقد اكتشفنا أن القرار الوطني الفلسطيني المستقل هو في الحقيقة قرار مجموعة من القياديين، الذين جنحت بهم الظنون، واستسلموا لأطروحات المستشرقين الفلسطينيين والأجانب على حدٍّ سواء، الذين زينوا لتلك المجموعة من القياديين أن الوضع في فلسطين أشبه بمناطق النزاعات المماثلة في العالم، حيث لا بدّ من الوصول إلى «مصالحة تاريخية».
وكان العقل القابل لتلك الأطروحة هو الأخ محمود عباس، الذي كان يسعى لفتح نافذة إسرائيلية للحديث معها، وحين سنحت الفرصة، قام بتكليف الأخ أحمد قريع (أبو علاء) بالبدء بالاتصالات، وكان هذا القرار قراراً فردياً، ولم يكن قراراً جماعياً من اللجنة التنفيذية، التي ظلت غائبة عن المشهد إلى قبيل لحظات التوقيع. وحين اطلع البعض على وثائق أوسلو، أصيبوا بالصدمة العميقة، وصار البعض يترحم على اللورد بلفور صاحب «تصريح بلفور» الشهير، ذلك أن التصريح تضمن شرطاً واضحاً وصريحاً لمصلحة الفلسطينيين، من أن إنشاء الوطن القومي اليهودي «سوف لا يؤثر في الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية» في فلسطين.
إلا أن شرطاً مماثلاً لم يرد في اتفاقيات أوسلو، التي لم تنص على أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني. فلم يرد نص مثلاً عن حق الشعب في تقرير مصيره، أو حق العودة، أو وقف الاستيطان، أو التزام إسرائيل بالانسحاب، أو حتى التزامها بالإفراج عن مياهنا، التي تتعرض للسطو المبرمج ويقوم الاحتلال ببيعنا مياهنا.
وفصّلت اتفاقيات أوسلو بإسهاب وشرح ممل، الأشياء الثانوية التي لا قيمة لها مثل تحديد حجم الخط الذي تطبع به الوثائق الصادرة عن سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، وعن لون البنزين الذي يباع في الأراضي المحتلة، لكن لم يتذكر المفاوضون أصحاب القرار المستقل الأشياء الأهم.
غرقت الاتفاقيات في تفصيلات الأمن والحماية لجنود الاحتلال وللمستوطنين، بحيث لا يجوز محاكمة مستوطن لاعتدائه على فلسطيني، أو لإخلاله بالتزام تجاري عادي، أو لانتهاكه حرمة منزل، أو الاعتداء على امرأة فلسطينية. من يقرأ هذه الاتفاقيات، ولاسيما النصوص الأمنية، ينتهي إلى نتيجة مؤداها أن الفلسطينيين أصبحوا يحرسون الاستيطان والمستوطنين، بل يجب أن يتعاونوا ـ كما هو جارٍ حالياً ـ مع أجهزة الأمن الإسرائيلية لإلقاء القبض على «المخربين الفلسطينيين». وهذا ما يسمى بـ»التنسيق الأمني» الذي ارتقى به الأخ محمود عباس إلى مرتبة القداسة.
وتعبير «التنسيق الأمني» هو الاسم الحركي لعمليات التجسس على عناصر المقاومة الوطنية، هل هناك حالة واحدة في التاريخ أصبح فيها الضحية جاسوساً وحارساً لمضطهديه، إلاّ في ظل سلطة القرار الوطني الفلسطيني المستقل؟واكتملت خرافة «القرار المستقل» حين قرأنا أن الرئيس الفلسطيني، أوقف السير في الدعوى التي أقامتها فلسطين أمام محكمة العدل الدولية ضد الولايات المتحدة الأمريكية بسبب قيام الأخيرة بتاريخ 6/12/2017 بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وكانت هذه خطوة في غاية التوفيق والذكاء – وهذا أمر نادر الحدوث في السياق الرسمي الفلسطيني ـ بأن أقامت فلسطين الدعوى أمام المحكمة الدولية بتاريخ 28/9/2018 على أساس اتفاقية فيينا الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية، التي انضمت إليها فلسطين.
وباختصار شديد، فإن الدعوى كانت تقوم على أساس مؤيّد بالقانون، الذي ينص على أن الدولة التي تعترف وترسل بعثتها الدبلوماسية إلى الدولة الأخرى، يجب أن تقيم بعثتها في أراضي الدولة المضيفة. بمعنى أنه كان على الولايات المتحدة أن تقيم بعثتها الدبلوماسية على أراضٍ إسرائيلية.
فهل القدس الشرقية «أرض إسرائيلية»؟ إن العالم أجمع يرفض الادعاء الإسرائيلي، ما يجعل الاعتراف الأمريكي ونقل السفارة إلى القدس هو خرق لاتفاقية فيينا.
والمادة (21) من هذه الاتفاقية تنص بصراحة على أن الدولة المضيفة ملزمة «بتسهيل مهمة الدولة المرسلة بامتلاك عقار في أراضيها» لإقامة البعثة الدبلوماسية، وإسرائيل لا تملك حق تسهيل مهمة الولايات المتحدة «في أراضيها» فالقدس ليست أراضي إسرائيلية. كما تُلزِم اتفاقية فيينا الدولة المرسلة أن تقيم بعثتها الدبلوماسية في الدولة المضيفة، التي عليها أن تؤدي مهامها طبقاً لقواعد القانون الدولي.
فهل البعثة الأمريكية في القدس المحتلة تتصرف وفقاً للقانون الدولي وهي التي مجرد وجودها في القدس المحتلة يطعن القانون الدولي في الصميم؟
ويلحظ أن هذه القيود الواردة في اتفاقية دولية، والولايات المتحدة طرف فيها منذ عام 1972، قد تمّ الإخلال بها وتجاوزها، ما يشكل مسؤولية الولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس طالبت فلسطين في دعواها، أن تأمر المحكمة الولايات المتحدة بسحب بعثتها الدبلوماسية من القدس المحتلة، وتعلن التزامها باحترام اتفاقية فيينا.
لقد أحدثت الخطوة الفلسطينية، إرباكاً للولايات المتحدة أولاً، إذ تمّ تسجيل الدعوى باسم فلسطين ضد الولايات المتحدة، ثانياً، إنها تعلن أن الولايات المتحدة في حالة إخلال واضح باتفاقية دولية تتعلق بقضية فلسطينية مقدسة، وهي القدس ووضعها. وثالثاً، إنها تطعن في قلب السياسة الصهيونية من استعمار القدس والسيطرة عليها. وكان من المتوقع أن تفرز هذه القضية الدولية نتائج قانونية في غاية الأهمية لفلسطين.
وتفاجأ الجميع أنه بتاريخ 3/12/2021 نُشر خبر أن القيادة الفلسطينية «أوقفت» السير في القضية أمام محكمة العدل الدولية «مقابل وعود» أمريكية، ومن هذه الوعود «إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية» و»إقناع حكومة الاحتلال بتقديم تسهيلات معيشية واقتصادية» وهي أثمان تافهة مقارنة بالفوائد المتوقعة من المضي في الدعوى. وكشف تقرير المحكمة الدولية، أن القيادة الفلسطينية أرسلت بتاريخ 12/4/2021 طلباً لتأجيل جلسات الاستماع الشفوية التي كانت مقررة في الأول من تموز/يوليو عام 2021. وورد في التقارير الصحافية أن قرار وقف الإجراءات «هو قرار سياسي من الرئاسة الفلسطينية بشكل مباشر، ولم يخضع لأي نقاش مع خبراء قانونيين أو مسؤولين فلسطينيين في وزارة الخارجية». وهكذا نعلم أن القرار الوطني الفلسطيني المستقل هو في حقيقته غطاء لقرار الرئيس بمفرده، فهو الذي يعلم النتائج والمصائر وهو، شأنه شأن رموز النظام العربي، يعلم مصلحة شعبه أكثر من هذا الشعب. إن هذا الوضع المأساوي الذي آلت إليه أوضاع القيادة الفلسطينية، ومصير «القرار المستقل» أدى بالبعض للتحرك وإنشاء الحملة الوطنية لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك بالسعي لإجراء انتخاب مجلس وطني فلسطيني ينتخبه الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، ويكون قادراً على فرز لجنة تنفيذية وقيادة ديمقراطية جديده ذات توجهات نضالية ملتزمة بثوابت شعبها وقادرة على صيانة القرار الوطني الفلسطيني المستقل.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”