كتب: مهنا الحبيل
يعود السؤال القديم الذي أصبح سخيفاً، عند كلّ مرة تتقدّم فيها الجمهورية الإيرانية، إلى خطوة اقتطاع سياسي وديمغرافي وفكري في الأرض العربية، يتصاحب ذلك مع موجة تسفّل وانحطاط عربية، خصوصاً في الناحية الخليجية تندمج مع تل أبيب، وهي اليوم تشمل الأردن والمغرب ودولاً أخرى غير خليجية. لكن، هناك في الحالة الخليجية تعمّد استحقار للذات وتولّه للفكرة الصهيونية، وترويج عقيدتها، وكأنّما الأمر يُدار بمشاعر نفسية وليس بإدارة سياسية، تزعم أنّ التعلق بالوجود الإسرائيلي سيحميها في القرار الغربي الإستراتيجي.
لكنّ المادة السخيفة هنا تتبين بالسؤال المقابل، هل هذا الفشل والسقوط في النظام الرسمي العربي، والخليجي بالذات، يُشرّع التبرير للتقدّم الإيراني، هل هو مجرّد تقدّم ثقافي أو اقتصادي أو علاقات سياسية، أم اقتطاع حقيقي للأرض العربية والأسوأ للضمير العربي، الذي يفزع بعضهم حين يرتهن باسم تل أبيب ولا يفعل حين يكون “بيّادةً” لطهران ضد الإنسان العربي، يُفرّق ما بين الأخ وأخيه، والقطر العربي وشقيقه… فهل إيران خطر حقيقي على المنطقة؟ في الردّ على هذا السؤال إن لم يقنعه حال العراقيين، سُنّتهم وشيعتهم وكلّ طوائفهم، والسوريين واللبنانيين واليمنيين، فلن يقنعه شيء.
أولاً، لا يقوم الموقف هنا على العداء القومي للأمة الفارسية التي دخلت في الإسلام، وإن كان بقاء الأطماع القومية أو المشاعر الانتقامية في أيٍّ من أمم الإسلام، بُعدٌ خطر له أثره المدمّر في التاريخ الإسلامي، وهو لا يُبرّر أيضاً الروح القومية العربية المنفصلة عن الإسلام، والتي سيطرت على الأمة العربية سابقاً، وساهمت في صناعة حاجزٍ انفصالي مع بقية أمم الشرق.
ثانياً، لكنّنا نواجه هنا آثار تدمير البنية الاجتماعية العربية التي نفّذها الإيرانيون كمنظومة حكم، منذ قيام الثورة الطائفية 1979، والتي لم تكن تُستشعر في عهد الشاه، على الرغم من ولائه للإمبريالية ودوره المناهض للعرب، لكنّ الريح الطائفية التي اشتعلت مع الثورة، وقسّمت شعوب الأمة ببعدها الطائفي، كانت نتيجة هذه الثورة، مع ما نؤكده دوماً من شراكة المنظومة الرسمية العربية في اللعبة الطائفية المقابلة وتأجيجها، خصوصاً في الخليج العربي.
ثالثاً، لكنّ هذا الواقع لا تعالجه ظاهرة الحج المجنون نحو تل أبيب والتحالف مع الفكرة الصهيونية ذاتها، بل إنّه رهان غبي لكونه يَستدعي حبل إنقاذ سيتطوّع به الغرب، أو الإسرائيليون لمد العون في ساعة السقوط الصعبة لهذا النظام أو ذاك.
رابعاً، نشير هنا إلى ظاهرة منتشرة في الأقطار العربية التي غرست فيها الثورة الطائفية وحصدت مصالحها، ما هو حالها، ماذا فعلت في وحدتها الوطنية الرياح الإيرانية، ألم ترهن الأرض العراقية لأجل صفقات طهران، ألم تكن شريكة حتى مع تنازعها النسبي مع واشنطن، في واقع العراق الكارثي؟
خامساً، من يعطّل المصالحة الوطنية الاجتماعية للنهوض، وتحقيق المشاركة الشعبية المستقلة، من الذي يُمسك بمساحة الصندوق وقرار تفعيل البرلمان والحكومة التنفيذية في لبنان والعراق، أليست إيران؟ ألم يَرتّد هذا الواقع على صناعة شبكات فساد توازي حكومات، وتتدخل في مصالح الناس، حتى المعيشية وحتى وقود سياراتهم؟ أين واقع هذه البلدان الصحي والاقتصادي، والأخطر هويته الاجتماعية الموحدة، سنة وشيعة ومسيحيين وغير ذلك، من يُعطّل العودة البسيطة للمواطنة الحرّة؟
سادسا، هل عرف اليمن منذ إسقاط الحكم الإمامي هذا العقل الخرافي، وحالة التشرذم والانقسام الطائفي كما يجري اليوم، هل ربيع الإيرانيين بات رحمة للشعب؟ حسناً ماذا عن جريمة ما يسمى التحالف العربي، في خطة الحرب أو في نهايات المشهد، هل مسؤولياته على جرائمه تبرّر واقع الهيمنة الإيرانية ومآلها، حتى أضحى سفيرها الشخصية التي تُشيّع زعيما قوميا للشعب اليمني، وهو سفير لمهام طائفية، واستعمارية لمصالح إيران، ولتفعيل بطاقات نفوذها في المنطقة لصالح مشروع الجمهورية القومي، هل هذه علاقة صداقة وأخوّة متكافئة؟ إنها مسخرة سياسية وضحك على الذقون، وقابلية أخرى للاستعمار، وهذه المرة احتلال الإنسان.
هل تتبنّى الشعوب في حالات الصراع الداخلي، والذي يتداخل مع تعدٍّ إقليمي أو تدخل خارجي، تشريعاً للتعاون مع الاحتلال وبقائه؟ هل هذا الخطاب كان يروج في الأقطار العربية، وبالتالي ما دامت أنظمة في الخليج العربي مثلاً مجرمة في سياساتها في حق الإقليم وشعوب المنطقة، فيجب في المقابل أن يُعزّز الاحتلال الإيراني لأيّ قطر عربي، هل هذه القاعدة ممكن أن تروج لصالح الأميركيين أو الروس أو الأوروبيين.
أحياناً، في مزالق السياسة قد يُفهم قرار القوى الوطنية تحييد قدرات الاحتلال وتنظيم مواجهته، بين القوة العسكرية والمقاومة المدنية. ولكن لا أحد في ظل الإيمان بالاستقلال حقا وطنيا وإنسانيا، يُبرر لتمكين الاحتلال، هذا بالضبط ما يجري ممن يشكّك في الخطر الإيراني، فكيف إذا كان هذا الاحتلال يُفرّق بين أبناء الشعب، ويمنع قيام قوة متّحدة تطرد الإرهابيين الذين يديرهم الاحتلال أو التدخل العربي الخبيث، أو نبت زرعهم في ظل الفتنة الكبرى في أرض العرب.
ما يجري اليوم من كتل التبرير لمثقفين عرب هو تطبيع حقيقي لبسط النفوذ الإيراني لا على الأرض العربية فقط، بل في داخل الضمير العربي المحطّم، وعملية وظيفية حقيرة لمنع الوحدة الوطنية، في أيٍّ من أوطان العرب التي تُهيمن عليها إيران، من طرح سؤال الأزمة والانقسام الطائفي، وعلاقته بسؤال الوحدة والخروج من عنق الزجاجة الذي أهلك هذا القطر العربي أو ذاك.
يدرك العقل السياسي المراقب في المنطقة أنّ منابر المزايدة الإيرانية في مواجهة تل أبيب كانت، ولا تزال، مواسم استثمار لصالح بسط الإيرانيين نفوذهم، وهي مادّة صخب مهمة استراتيجياً للجمهورية الإيرانية، لمواصلة اقتطاع الصوت والضمير العربيين، تحت هتاف الموت لإسرائيل. ولم تمت إسرائيل، لكنّ أطفال سورية والعراق واليمن ولبنان يُقتلون، ويذبح مستقبلهم.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”