كتب: يحيى الكبيسي
في يوم 30 كانون الأول/ ديسمبر، هاجمت قوات أمنية منزلا في ناحية جبلة شمالي محافظة بابل أسفر عن إبادة عائلة بأكملها مكونة من 20 فردا، بينهم 12 طفلا.
في اليوم نفسه أصدرت عمليات بابل، وهي أعلى جهة عسكرية/ أمنية في المحافظة، بيانا رسميا بأنه “بعد ورود معلومات إلى استخبارات جبلة تفيد بتواجد مطلوبين عدد 2 في منطقة الرشايد… خرجت مفرزة استخبارات إلى المكان المعني… قام صاحب الدار باطلاق النار على مفرزة الاستخبارات… وبعدها وحسب أقوال الضابط تم الاتصال بالسيد قاضي جبلة وأخذ الموافقات… وبعدها تم توجيه نداء الى مفارز سوات… قامت بتطويق البيت… وحصلت مواجهات بينهم وبين صاحب الدار… بعدها واثناء دخول القوة إلى الدار وجدوا جميع العائلة مقتولة… تم التوصل إلى عدد المقتولين والبالغ عددهم 20”.
في اليوم التالي أصدرت خلية الإعلام الأمني التابعة لمكتب رئيس مجلس الوزراء بيانا قالت فيه إن “القوات الأمنية قامت بملاحقة متهمين اثنين بالإرهاب في منطقة جبلة شمالي محافظة بابل، وبعد تضييق الخناق عليهما قاما بفتح النار العشوائي على القوات الأمنية ما أدى إلى إصابة عدد من أفراد القوة المنفذة للواجب التي شرعت بفتح تحقيق على خلفية العثور على عدد من الجثث لمواطنين في منزل بالمنطقة”!
في اليوم نفسه ظهر خبير استراتيجي وأمني “رسمي” من على شاشة قناة الحدث، ليقول إن صاحب الدار: منتم إلى تنظيم القاعدة سابقا، ثم التحق بتنظيم داعش، هو وإخوته وأبناء عمومته ينتمون إلى التنظيم عقائديا، وأن ابن عمه كان واليا لبغداد واسمه علي العزاوي، وأنه سبق أن ألقي القبض عليه ولكن أطلق سراحه بموجب قانون العفو! ولم يخبرنا الخبير كيف يكون رحيم الغريري ابن عم علي العزاوي على الرغم من أنهما من عشيرتين مختلفتين كما هو واضح من الألقاب! أو كيف يكون قد أطلق سراحه بموجب قانون العفو على الرغم من أن قانون العفو لا يشمل المتهمين أو المحكومين بموجب قانون الإرهاب!
ظهيرة اليوم نفسه أصدرت وزارة الداخلية بيانا قالت فيه إن وزير الداخلية قد تواجد بشكل ميداني في منطقة جبلة “على خلفية الحادث الذي وقع أمس وراح بسببه عدد من الضحايا”!، وقرر تشكيل “لجنة تحقيقية مختصة للتحقيق مع القوة التي نفذت الواجب”! فيما ظهر مدير العلاقات والإعلام ورئيس خلية الإعلام الأمني نفسها، الذي كان بصحبة وزير الداخلية، ليؤكد في تصريحات لقناة العراقية الرسمية من موقع الحادث أن “ما حدث جريمة غير مبررة، وقد فقدنا أناسا من أهالينا بينهم أطفال” ووصف ما جرى بأنه “استخدام مفرط للقوة”!
جريمة اشتركت فيها قوات أمنية رسمية لا أحد يعرف حتى اللحظة كيف تلقت أوامرها، ومن أصدر هذه الأوامر، وكيف تحركت بهذا العدد والعدة، واستخدمت فيها أسلحة متوسطة بطريقة عشوائية ضد مدنيين.
في مساء اليوم نفسه أصدرت خلية الإعلام الأمني بيانا ثانيا لها تقول فيه: “للوقوف على ملابسات حادث جبلة شمالي محافظة بابل وحاسبة المقصرين فيه، القائد العام للقوات المسلحة يأمر بتولي جهاز الأمن الوطني التحقيق في ملف القضية بالتنسيق مع محكمة استئناف بابل”!
يوم 3 كانون الثاني/ يناير أصدر المكتب الإعلامي للسيد رئيس مجلس الوزراء بيانا وصف فيه الجريمة “المجزرة المروعة” وأن التحقيق فيها شمل “تأشير الخلل في المنظمة الأمنية الذي سمح بنقل معلومة استخبارية غير دقيقة لأغراض شخصية، وتسبب بسقوط أبرياء، أو السماح بتضليل المراجع الأمنية والرأي العام حول حقيقة الحادث وملابساته”! وأوضح البيان أن السيد الكاظمي قد تلقى من رئيس جهاز الأمن الوطني “تقريرا تضمن شرحا حول الظروف التي رافقت الجريمة المروعة، وبما يشمل تأشير التقصير الواضح في أداء المنظومة الأمنية”! وأنه قد تم القاء القبض على 14 شخصا من المشتركين في الجريمة “سواء بنقل معلومات كيدية أو في التنفيذ”!
وقد تضمن البيان بعض القرارات المتعلقة بالمنظومة الأمنية، من بينها تشكل لجنة تتولى “التحقيق في الظروف التي سمحت بالجريمة وتعدد المصادر الاستخبارية، والاستمرار في تلقي معلومات كيدية والتصرف على أساسها من دون اخضاعها للتدقيق الموضوعي” و “إحالة المعنيين في نقل المعلومات الأمنية وإعلانها في وزارة الداخلية، وخلية الإعلام الأمني إلى التحقيق حول نشر معلومات مضللة عن الحادث”!
في اليوم نفسه أصدر إعلام مجلس القضاء الأعلى بيانا يشير إلى المصادقة على اعترافات ثلاثة عشر متهما عن “جريمة القتل” كما يصفها البيان، والتي حدثت في جبلة، وهم “تسعة ضباط، وثلاثة منتسبين، فضلا عن المخبر الذي أدلى بالمعلومات غير الصحيحة”. وأكد أن هناك أربعة أوامر قبض أخرى صدرت لمتهمين آخرين، وأن التحقيق جار “وفق أحكام المادة 406/ 1/ ز من قانون العقوبات” وأن التحقيقات الأولية تشير إلى أن “الحادث جنائي”!
وبالعودة إلى أحكام تلك المادة في قانون العقوبات سنجد أنها جاءت ضمن الفصل الخاص بالقتل العمد، وهي تنص على أن يعاقب بالإعدام من قتل نفسا عمدا “إذا اقترن القتل العمد بجريمة أو أكثر من جرائم القتل عمدا او الشروع فيه”!
من هنا يبدو أن البيان يسفه ما وصفه بيان مكتب رئيس مجلس الوزراء بـ”المجزرة المروعة” ويحولها إلى جريمة قتل عمد “جنائية” وكأنها ارتكبت من أفراد مدنيين ضد آخرين في الشارع، وليست جريمة اشتركت فيها قوات أمنية رسمية لا أحد يعرف حتى اللحظة كيف تلقت أوامرها، ومن أصدر هذه الأوامر، وكيف تحركت بهذا العدد والعدة، واستخدمت فيها أسلحة متوسطة بطريقة عشوائية ضد مدنيين، وجريمة فيها عدم احترام للإجراءات القانونية المتعلقة بإصدار أوامر إلقاء القبض، وعدم احترام الإجراءات القانونية المتعلقة بتنفيذ أوامر القاء القبض، وأخيرا جريمة تضليل الرأي العام ونشر أخبار كاذبة للتغطية على الجريمة!
لقد شهدنا طوال سنوات ما بعد 2003 مئات، وربما آلاف الجرائم، تواطأت فيها مؤسسات الدولة كافة، من خلال الصمت أو التغافل عن إجراء تحقيق جدي، ومن خلال غياب الشفافية في التعاطي الرسمي مع هذه الجرائم، مع سعي منهجي للتغطية عليها إفلات مرتكبيها من العقاب! بعض هذه الجرائم قتل فيها المئات (كما في جريمة جند السماء في العام 2007 التي لا يعرف أحد حتى اللحظة ما هي حقيقتها) أو أخفي قسريا فيها المئات أيضا (كما في جرائم الاختفاء القسري للآلاف في سياق الحرب على داعش).
وربما تكون جريمة جبلة أول جريمة تحظى بهذا النوع من التحقيقات الجدية، وعدم الخضوع لشروط لعبة التواطؤ الجماعي المنهجية، وهذا يحسب للسيد الكاظمي بكل تأكيد، ولكننا ما زلنا بعيدين تماما عن الوصول إلى احترام للقواعد الدستورية والقانونية المتعلقة بحقوق الإنسان، ووقف الانتهاكات المنهجية لها، أو بالشروط المهنية الواجب اتباعها من المؤسسات العسكرية والأمنية، أو بمبادئ التقاضي العادلة. والأهم ماذا عن الآلاف الذين اتهموا أو أدينوا، أو حتى قتلوا، جراء هذه اللامهنية الفاضحة وهذه الانتهاكات المنهجية طوال السنوات الماضية؟
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”