كتب: محمود الرحبي
تمرّ ذكرى وفاة الكاتب والشّاعر العُماني، علي المعمري، الذي وُلد في 1958 وودّع دنيانا في يناير/ كانون الثاني 2013. حياته تشبه ضحكته، عالية وصاخبة وواسعة، كانت طويلة بينما كان عمره قصيراً. بهذا المعنى، كانت ضحكة علي المعمري تنافس عمره. يزاحم المرح حياته.
وكنا نظنّ أن علي أخذ الأدب دعابة، خصوصاً في مجاميعه القصصية الأولى التي يصعب فهمها، وتشبه خطه اليدوي على الورق. لكنْ على الرغم من صعوبة اعتبارها قصصاً بالمعنى المعتاد، فإنّ الكاتب المصري عبد الحكيم حيدر، قال عنها يوماً إنّها الأقرب شبهاً بتيار الوعي الذي أسّسته البريطانية فرجينيا وولف.
أما في رواياته، فقد بدا علي المعمري وكأنّه قطع مع كتابته السابقة، واختطّ لنفسه أسلوباً جديداً، أساسه الجدّية والبحث، بل نراه منقباً في الوثائق السياسية والجغرافية والمكانية، بما يعنيه ذلك من تمحيص وتدقيق، فاستطاع أن يُذيب هذه الوثائق في قالب روائي.
وهو ما شهدت به وأكدته المقالات عن رواياته. وأتذكّر، في هذا السياق، حديث الناقد والأكاديمي المغربي، حسن بحراوي، لي بإسهاب عن إعجابه برواية علي المعمري “همس الجسور” التي امتازت بالدّقة، خصوصاً في وصفه المقاهي والأماكن في تركيا، حتى إنّ كاتباً قال عنها إنّها أشبه بدعاية سياحية لهذا البلد، نظراً إلى دقتها في وصف الأحداث والأماكن التي كان يرتادها بعض الكتّاب، مثل أورهان باموق (نوبل 2006) والإسباني أنطونيو غالا، وغيرهما. لقد تحولت كتابة علي المعمري من الدّعابة والمتعة إلى الجدّ والبحث الدؤوب، ولا سيما إذا عرفنا أنّه لكي يكتب “همس الجسور” أقام طويلاً في تركيا.
وإذا كانت قد اختيرت ضمن أفضل مائة رواية عربية، في حياة كاتبها، وتُرجمت إلى الفرنسية، فقد كان لرواية علي المعمري الأخيرة “بن سولع” النصيب الأوفر من كتابات النقّاد، وقد سافر الكاتب إلى بريطانيا، للاطلاع على الوثائق المفرج عنها، وتحديداً في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية “سواس” للإفادة منها في كتابة هذه الرواية التي كتب عنها الشاعر هلال الحجري أنّ المعمري استطاع فيها “أن يقبض على جمرة التاريخ باقتدار باهر، ما يكشف دراية كاتبها بأسرار تلك المرحلة التاريخية، من جهة، وقدرته على الإمساك بخيوط السّرد من أجل بناء نسيج متماسك، من جهة ثانية.
فرغم أنّ عدد صفحاتها يزيد على أربعمائة، فإنّ قارئها لا يدركه الملل رغم ‘جفاف’ التاريخ و’قسوته’ في المصادر والوثائق؛ ما يدلّ على أنّ الكاتب نجح في إدارة الوثائق التي اعتمد عليها في صنع رواية مُهمّة وازَنت بين الفائدة والمتعة”.
وكانت ثيمة الصّراع وسيطرة الاستعمار البريطاني على الجزيرة العربية والغطرسة التي مارسها المستعمر هي الغالبةَ على هذا “الأثر” القيّم للراحل، إذ عرض فيه، بأسلوبه (الجاد) العبثَ التاريخي. وقد تحدث عن حيثيات كتابتها في لقاء إذاعي أجراه معه الكاتب والإعلامي سليمان المعمري، إثر فوز هذه الرواية بجائزة الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء.
لم يُمهل الموت علي المعمري مزيداً من الوقت ليقول كلّ ما لديه، وهو “المفاجئ” لأحبّته، كما عنوان إحدى مجاميعه القصصية “مفاجأة الأحبّة”. وأتذكر جيداً لحظة تسميته لها، إذ كنا في مقهى برفقة أصدقاء، وظلّ علي محتاراً في اختيار عنوان مناسب، حين اقترح عليه صديقه الحميم الراحل، عبد الله حمود الوهيبي، في ما يشبه الدّعابة “سمّها مفاجأة الأحبة”، فما كان من المعمري إلّا أن ضحك ضحكته الشاهقة، ووافق على العنوان في الحال.
أمضى علي المعمري الذي شبّهه الشاعر صالح العامري، في بورتريه أعدّه عنه بـ”إرنست همنغواي ولكن من دون بندقية صيد ولا قفازَي ملاكمة” وقتاً طويلاً في حياته متنقلاً بين القاهرة والإسكندرية والرباط، وإن كانت إقامته الأطول في تركيا التي يبدو أنّه خبرَ جيداً تفاصيل الحياة فيها، ما عكسته بوضوح روايته المبدعة “همس الجسور”.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”
المقالة السابقةعسيري يُعّلق على وفاة 3 مؤيدين لأنظمة قمعية
المقالة التالية حصاد إسرائيل الديموغرافي لعام 2021