كبت: د. أحمد القديدي
في مساء 6 يناير 2021 شاهد العالم مباشرة على كل الفضائيات عمليات اقتحام آلاف من أنصار الرئيس ترامب لحرم الكونغرس وهو مبنى الكابيتول الرمز والمنارة للديمقراطية الأمريكية منذ 270 عاماً، وتابع الناس في القارات الخمس على المباشر ما لم يتوقعوه وما لم يحدث في الولايات المتحدة في التاريخ الحديث، أربعة مواطنين مقتحمين وعون حراسة ماتوا ضحايا قتلوا في هذه الغزوة – المهزلة وقد أطلقت عليها الصحفية الأمريكية (جين كوفليه) من وكالة (بلومبيرغ) نعت (أربعاء الغوغاء) تمثلا واستحضارا لأشهر قصائد الشاعر (ت. س. إليوت) بعنوان (أربعاء الرماد).
وفعلا هناك تماثل بين الأربعاء الشعرية والأربعاء (الترمبية) لكونهما يعلنان نهاية الديمقراطية الدستورية المؤسساتية وتدشين عهد الغوغاء إلى درجة أنه في نفس اليوم الرهيب طالبت نائبة رئيسة الكونغرس السيدة (كاترين كلارك) ومعها نواب آخرون من بينهم المسلمة (إلهان عمر) بالتصويت الفوري على عزل ترامب الآن ودون انتظار يوم العشرين من يناير2021 لأنه حسب هؤلاء (ترامب) يهدد لا العمل التشريعي العادي فحسب وليس الديمقراطية الدستورية فحسب بل يهدد الأمن العام والسلام الاجتماعي في الولايات المتحدة بأسرها! يمكن تصديق هذه الأصوات إذا ما قرأنا الخطب التي ألقاها ترامب على أنصاره والتي شحنها باستعادة النشيد القومي المتطرف القادم من الحرب الأهلية الأمريكية أواسط القرن الثامن عشر بل ورفع رايتها، والتي كانت تقاوم (ابراهم لنكولن) قبل أن تغتاله لأنه سعى إلى تحرير العبيد و ذه النبرة اليمينية العنصرية في خطاب ترامب هي التي حسب علماء الاجتماع والسياسة نفضت رماد الزمن عن الغرائز العنصرية لدى شريحة أقلية نشيطة من الأمريكان جندها وزكاها ترامب نفسه وأجج لهيبها حين لم يكن حازماً إزاء الجرائم العنصرية التي هزت المجتمع الأمريكي، والتي قتل فيها بدم بارد بعض العنصريين من الشرطة الفيدرالية مواطنيهم السود! إلى درجة أن إدارة تويتر منعت عشية الأربعاء بث تغريدات ترامب وغلق حسابه مدة 12 ساعة لأنها تدعو للعنف وتشرع للقتل وتدعو إلى تقسيم المجتمع الى (واسب) والى الآخرين! وعبارة (الواسب) هي المتداولة وتشير إلى تفوق العنصر الأبيض والمتدين بالبروتستانتية على غيرهم من المواطنين درجة ثانية أي من عداهم من أصول أفريقية ومكسيكية (لا تينوس) ومن طوائف يسميها العنصريون بالهنود الحمر، بينما هم لا هنود ولا حمر بل سكان القارة الأمريكية قبل كريستوف كولمب واجتياح الأوروبيين للقارة التي سموها جديدة وهي أعرق من أوروبا نفسها وممارسة الإبادة الجماعية الموثقة والمعروفة للسكان الأصليين لانتزاعهم من أراضيهم واستعمارها بالغزاة وبالإبادة!.
الذي جرى يوم الأربعاء 6 يناير منذ عام في الكابيتول هو عملية وصفتها السيدة (نانسي بيلوسي) رئيسة المجلس التشريعي بالهمجية، وحين تدخل الرئيس المنتخب جو بايدن على الشاشات قال ناصحا ترامب: «أنت أقسمت يوم تنصيبك على صيانة الدستور ودستورنا لا ينص عل تعويض مؤسسات الدولة بالفوضى، وأذكرك بأن بضعة آلاف من أنصارك الخارجين عن القانون لن يغيروا ذرة من إرادة مئات الملايين من الناخبين الذين يضمنون بأصواتهم حسن سير مؤسساتنا الدستورية التي لم تتزعزع بهذا الشكل منذ 270 عاما!»، وبتأخير كبير تكلم ترامب على عجل ليأمر «قواته» بالتراجع والعودة إلى بيوتهم واحترام الكونغرس وبالفعل انسحبت هذه الغوغاء، وأكمل المشرعون عملهم في النظر والبت في بعض الاعتراضات على النتائج بهذه الولاية أو تلك ولكن بعد سقوط خمسة ضحايا المعلن عنهم وإصابة 16 عون أمن بجراح متفاوتة الخطورة في عمليات التصادم بين الفوضويين ورجال الأمن داخل قاعات الكابيتول.
إنه يوم سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة وأعتقد أن الدستور يضم بنودا تدين هذه الممارسات وتسمح للمشرعين بإحالة المتسببين في الفوضى إلى أنظار القضاء، وهذه المرة بعد سقوط قتلى، لعل أغلب المحللين والمراقبين على حق حين أجمعوا تقريبا في الحوارات التلفزيونية منذ عام على أن شخصية دونالد ترامب هي التي كانت المحرك الأساسي للغوغاء لأنها شخصية حسب رأي المحلل النفسي (بيل أندرسون) من جامعة ماريلاند متقلبة وغير واثقة من نفسها وتختلق حولها مؤامرات وهمية بداية من أقرب المقربين منه في الحاشية الحاكمة من 2016 إلى 2020!.
أكبر عبرة يمكن استخلاصها اليوم بالنسبة لنا نحن العرب هي أن الدولة ذات المؤسسات القوية المنتخبة هي الواقية من الانحراف والزلل والضامنة للحقوق والحريات.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”