كتب: مهنا الحبيل
النقلة التي حققها برنامج “المقابلة” في قناة الجزيرة لصالح مدرسة الفلسفة الأخلاقية الجديدة التي يُعتبر وائل حلاق من أبرز شخصياتها اليوم لم تُسبق، فقد حققت قفزة كبيرة وقوية لصالح هذا التيار المعرفي، ولدعم انطلاقة البحث الجديد عن معادلة المعرفة الإسلامية، الضعيفة في اهتمام كلا المنهجين، أروقة الفلسفة الغربية وإمبراطوريتها الأكاديمية، ومدارس التراثيين والتربويين الإسلاميين التي تُبعث من جديد، وتُحاول أن تصل إلى منظومةٍ متماسكةٍ من التراث ذاته، بعضها يدور في أزمة التراث ذاته، وبعضها يحاول أن يخرج من الأزمة المزدوجة ويُحرّك رؤيته، نحو فضاء المعرفة المتجدّد.
وليس من المعقول أن يعرض جهد وائل حلاق الضخم، في 80 دقيقة تلفزيونية، ولا حتى أن يُقدّم خلاصة متماسكة لمجمل أفكاره أو رؤيته، خصوصاً أنّ لغة التفكيك وإعادة الاعتبار التي دافع عنها حلاق، ومعه كما يقول بعض الحلفاء قبل انسجامه مع طه عبد الرحمن، كانوا جميعاً في هامش محدود، حتى لو قلنا إنهم خارج الحصار الأكاديمي، لكنّهم استثمروا هذا الرواق القوي في قلاع الفلسفة الغربية، ووصلوا إلى تحقيق خطوة كبرى لصالح الإنسانية، فخُرقت بوابة حرية أهم للعالم من جدار برلين. وهذه المقالة مختصة بهذا الجانب، وليس بنقد موقف حلاق من إصلاح الحداثة الذي قد نعود له.
نجاح البرنامج هو ما تستطيع أي مادة تلفزيونية أن تعمله، تسليط الضوء على مركز القضية الفكرية أو الفلسفية التي يُمثلها الضيف. وهنا حدثت المفاجأة لأوساط إسلامية كثيرة، خصوصاً التي كانت تُعمي الأيديولوجيا رؤيتها البصرية والسمعية، عن فهم الحقيقة العلمية أو المعرفية أو الفكرية عن المؤلف أو الباحث، من كاتب المقال حتى الفيلسوف المتميز كوائل حلاق.
لقد سقطت الأكذوبة الكبرى واللغة الدعائية عن وائل حلاق، حتى ظنّ بعضهم أنّ حلاق بات يُنافس الرؤى الإسلامية المحافظة المغلقة لتصورات الإسلام عن الحياة، وأنه قلمٌ شرس ضد كل الحضارة الغربية، لا مهادنة لديه ولا تراخي، وفي كلا الأمرين زاوية اشتراك وقوس افتراق مهم، لا يسعنا أن نعرض له اليوم.
ما يجب التوقف عنده هنا قبل المضّي في رحلة حلاق، وأسئلة الفراغ التي تبرز لنا، من خلال شراسة دفاعه عن إنسانية الإسلام وتوحّش مادية الغرب، هو أن يؤخذ هذا الدرس إضاءة نوعية للعقل المسلم المعاصر. الأزمة التاريخية العميقة التي تسببت بمذبحة فكرية كبرى للعقول الإسلامية المبدعة (وهي زاوية أخلاقية حرجة) أن يؤخذ الرأي عن المفكر من خلال لسان التحريض لا عقل التبصّر المنير، وهكذا يُراكم ضحايا الفكر وأسئلة العقل المتجددة بين الإسلام والحياة وتطورات العصر.
لا تقف القضية هنا عند وائل حلاق، بل في حشود كبيرة، من مفكري الاجتهاد وعلمائه في حاضر العالم الإسلامي، الذين مورس عليهم مع سيف المستبد سوط الجمهور الذي اعتبره الشيخ محمد الغزالي أشد بأساً من حصار المستبدّين، وبكى منه في حقه المُر، وهو يسرد معاناته مع الإسلاميين، رغم أنّ الشيخ الغزالي أُخذ عليه بعض الحدّة مع خصومه، لكنّه آمن بعمق بحق العقل التنويري، وفضاء الرأي الذي يجب أن يسود.
إنّك قد تعجب من أنّ ترديد بعض الإسلاميين أسماء، كعلي عزت بيغوفيتش وعبد الوهاب المسيري ومالك بن نبي وآخرين، لا يقوم في أحيانٍ كثيرة، على تبنّي رؤاهم وفلسفتهم، وإنّما لتوظيف أسمائهم، أو وضعها كشعلة ديكور لهذا الخطاب الإسلامي أو ذاك، فضلاً عن الشخصيات الأخرى التي تُدمغ بالعلمانية أو التكفير المطلق لإسقاطها، رغم أنّ ما لديهم من المشتركات مع العقل المسلم، أو مفاهيم الحضارة، يوجِب السماع، ويؤكّد التقاطع الإيجابي المهم. وبالطبع، الجمهور هنا يتلقى إشارة التحريض، وهو مشحون من انهيار واقعه وإحباطه، فينفّس في تلك الأسماء التي دفعها مشروع التوظيف إلى صخب الصراع.
ووائل حلاق، كغيره من المبدعين في خدمة نظريتهم، قدّم رؤية تستحق التقدير، ولا تُلزم بالتقليد. وعليه، فإنّ مناقشته والرد عليه ميدان مفتوح لحوار العقل والفكر، وليس لأقانيم القهر والشيطنة، فالحوار هنا ليس مع مشروع وظيفي سياسي غربي أو عربي في قبضة الاستبداد، أنزل البأس على المستضعفين، واضطهد الأمم أو الشعوب في بضع سنين، ولكن حوارات عقل وفكر، القفز فيها على منبر التحريض فشل ذريع، حين يُعجزها الردّ، بل وأحياناً الفهم عن مقام المواجهة المنطقية لمعارضته، فنموذج حلاق اليوم بعد أن كُشف الستار دعوة إلى الشباب العربي، من جديد، بالتمهل وعدم الإقرار لحملات التحريض الدعائي المسيّسة أو الموظفة في صراع التيارات، فأول شروط النهضة احترام مساحة الرأي وبرتوكول الحوار، وشرف المعركة الفكرية لا زغل النفوس ولا ضجيج الجمهور، ومن لم يسعفه عقله للفهم، أو غلبت عليه نزوة كرهه لعلو كعب غيره في فكرة أو مشروع، فقد خسر الشرط الأخلاقي الذي تسمو به الأمم.
أما مدخل مشروع حلاق فهو يتوجّه إلى تحرير البصر والبصيرة الفلسفية المغيبة عقوداً أو قروناً، عن خلاصات هذه الرحلة التي تهيمن عليها قوة عالمية في الغرب، وطرح أسئلة المصلحة الإنسانية الكبرى: هل معدلات الموت – الشقاء – الاضطراب النفسي – التوتر الاجتماعي – المصالحة الإنسانية – التعايش الأممي – البيئة الصحية – الأخلاق في سلوك الشركات والأسواق والطب وصناعة الدواء – الحروب والأسلحة – تاريخ العالم ونهايته بناء على إنتاجية العالم الحديث في السلاح وفي تلوث البيئة، ثم الفزع النفسي وتدمير النظام الاجتماعي الفطري بالجندر المثلي، وهي كلّها تقوم على مادية الحداثة ومركزية الإنسان الإله، فهل هذه معدّلات إيجابية بمفهوم الأسرة العالمية الواحدة؟ أم أنها مقدمة حقيقية لفنائه، بعد أن هيمنت الرؤية الغربية وفُرضت عقيدة التقدّم الإبادي التي يقود بها الشمال الرأسمالي بشقه الأوروبي الأميركي والروسي ثم الصيني عالمنا اليوم.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”