كتب: حيّان جابر
شهدت المنطقة العربية موجتين ثوريتين شعبيتين منذ نهاية عام 2010 الذي أعلن انطلاق الموجة الثورية الأولى من تونس، لتتبعها مصر وليبيا واليمن والسورية، من دون أن ننسى رياحها التي طاولت الأردن والمغرب والجزائر والعراق ولبنان أيضا، حيث كان لنظام الأسد دور جوهري في إخماد هذه الموجة، بحكم دمويته وإجرامه غير المسبوق، في تاريخ المنطقة ونسبيا في التاريخ الإنساني، تجاه شعبه الأعزل. ثم تلقت شعوب المنطقة انتكاسات وصدمات وضربات عديدة بعد خمود لهيب الموجة الثورية الأولى، الأمر الذي أرهق كاهل الشعوب المرهقة أصلا، كما تصاعد دور أجهزة القمع السلطوية على طول منطقتنا الإقليمية وعرضها، وازداد التنسيق الأمني بين الأنظمة الإقليمية بغرض تلافي خطر استيقاظ المارد الشعبي. لكن ذلك كله لم ينجح في الحؤول دون اندلاع الموجة الثورية الثانية عام 2019، في كل من العراق ولبنان والجزائر والسودان، حيث مثل الحراك الثوري السوداني نموذجا رائدا على مستوى المنطقة، بما يخص الهياكل التنظيمية والطبيعية السلمية، في حين بثّ الحراكان، اللبناني والعراقي، الأمل في الخلاص من وثنية الفكر والنفوذ والقوى الطائفية في كل منهما، وفي مجمل المنطقة، ثم انتهت الموجة الثانية ظاهريا إلى الخلاصات ذاتها التي انتهت إليها الموجة الأولى، مع تغييرٍ شبه وحيدٍ، لكنه تغيير رئيسي، يتمثل بفشل النظم في كبح جماع الشارع المحتج ولو آنياً، إذ ما زالت شوارع لبنان والعراق والجزائر تشهد تحركاتٍ احتجاجيةً شبه دورية، وإنْ محدودة العدد وربما فئوية أحيانا، في حين أبدع ويبدع الشارع السوداني في مظاهراته المليونية الدورية شبه الأسبوعية منذ انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ي المقابل، لا يصحّ الحديث عن موجات المنطقة الثورية من دون المرور، ولو سريعا، على أوضاع النظام الرسمي الإقليمي الذي شهد، منذ نهاية العام المنصرم 2020، تقاربات جمة تكاد تنهي جميع الخلافات التي تأججت سابقا بين مكوناته، من عودة العلاقات القطرية – السعودية إلى التقارب التركي المصري والسعودي والإماراتي، وصولا إلى التطبيع الإماراتي والمغربي والبحريني والسوداني مع إسرائيل، مرورا بالتقارب الإيراني السعودي والإماراتي. وكما خبرنا من تجارب سابقة، وأكّدتها بعض الحقائق الراهنة، يمثّل الهم الأمني، سيما الداخلي منه، المفصل الأهم في طي صفحة الخلافات الإقليمية وعودة العلاقات الرسمية والمعلنة بين النظم. لذا تصدّرت أنباء الموقف من المعارضات والمعارضين مجمل الأخبار المسرّبة عن التقاربات والمفاوضات الإقليمية الحاصلة، والتي تتحدث بمجملها عن تضييق الخناق على المعارضين إقليميا، كما بتنا نشهد أخيرا في تونس وتركيا تحديدا.
إذاً، تتقارب النظم وتتوافق على محاصرة الشعوب وضبطها بشكل مباشر أو غير مباشر، كما تضيق المساحات الداخلية يوميا بفعل تزايد توغل نشاط الأجهزة الأمنية، في وقتٍ تتزايد فيه الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي تكسر ظهر المواطن، وتدفعه نحو حافّة الهاوية؛ الموت جوعا أو مرضا أو حزنا؛ حتى تكاد تنحصر خيارات المواطنين بين ثلاثة، إما السقوط المدوّي موتا يصنف طبيعيا أو مواجهة عنف السلطة المسيطرة وفسادها وإجرامها، أو هجرة الوطن بطرق غير شرعية غالبا، حيث مثلت الهجرة غير الشرعية المخرج شبه الوحيد أمام شعوب في المنطقة على مدار العامين السابقين. وربما يصحّ القول، على مدار العقد المنصرم، سيما في الدول التي شهدت أعلى درجات إجرام القوى والأنظمة المسيطرة، كما في ليبيا واليمن وسورية، غير أن التدقيق في الأوضاع والظروف الإقليمية والدولية الراهنة يكشف مدى التحولات التي شهدتها بما يخص اللجوء والهجرة، شرعية كانت أم غير شرعية، إذ تعمل دول الاتحاد الأوروبي على إغلاق جميع حدودها، حتى لو كلفها ذلك تشييد جدران فصل عنصري عالية ومحصّنة بأحدث التقنيات الأمنية، حتى لو أدت إلى قتل المقتربين منها، غير عابئةٍ بالقيم الإنسانية والحقوقية التي تتشدّق بها عادة. وكذلك تبذل تركيا جهودا حثيثة لإغلاق حدودها أمام الهجرات غير الشرعية، ولاسيما من سورية، وتبحث عن أي وسيلةٍ لترحيل ولو جزء من المقيمين على أراضيها عبر اعتقالهم وترحيلهم إلى الداخل السوري، أو من خلال تسهيل القيود على حدودها المشتركة مع دول الاتحاد الأوروبي، غير عابئةٍ بالمصير الأسود الذي سوف يلقاه المهاجرون غير الشرعيين نحو أوروبا خارج حدودها الرسمية.
أي ومع بدايات العام الجديد بات احتمال الهجرة واللجوء الخارجي يناهز الصفر، فالطرق باتت شحيحةً، واحتمالات الموت بالمتوفر منها غرقا أو بردا باتت أكبر وأعلى، الأمر الذي أدّى إلى تقليص خيارات الشعوب وحصرها في خيارين، الموت جوعا وبردا وفقرا وقهرا داخل بلداننا الوطنية، أو الانتفاض والثورة على السلطة الفاسدة الحاكمة، رغم عنفها وإجرامها الذي لا يرحم أحدا. لذا بتنا نسمع مزيدا من الأخبار عن مواطن هنا أو هناك قرّر إنهاء حياته طوعيا؛ انتحارا؛ نتيجة فقدانه الأمل بحياة حرّة وكريمة داخل الوطن، وبحكم العجز عن تأمين حاجات أطفاله وأسرته الأساسية، فهذا الخيار الفردي لا يقدّم أو يؤخر شيئا على مستوى الواقع المعاش، لكنه ينهي معاناة المنتحر اليومية، ويحمّل الباقين أعباء إضافية على المستويين، النفسي والمعيشي.
في حين تحاول أو سوف تحاول الغالبية حفر صخور الواقع، بحثا عن مخرج آمن لهم أو على الأقل لذويهم وأطفالهم عبر موجةٍ ثوريةٍ جديدة، مخرج ربما لن يعيشوا حتى يبصروا نوره، لكنهم قد يكونوا، بعملهم ونضالهم، جسرا لعبور المجتمع والوطن نحوه، فهنا نجد أملا محفوفا بالمخاطر التي تهدّد حياة بعضهم نتيجة عنف السلطات المسيطرة وإجرامها، لكنه نابض باحتمال التغيير الحقيقي والجذري، التغيير نحو دولة عدالة اقتصادية ورعاية اجتماعية ومواطنة كاملة على أنقاض دولة النهب والاستبداد التابع القائمة اليوم، دولة يحكمها شعبها ولأجل مصالحه، وتقضي على التخلّف والبطالة والمحسوبية، وتبني اقتصادا منتجا متطوّرا مستقلا غير تابع، وغير خادم لمصالح الاقتصادات الكبرى في العالم. وبالتالي، وعلى الرغم من الصعوبات والظروف القاسية اليوم، وعلى الرغم من الإحباط واليأس المعشش في النفوس، أعتقد أننا مقبلون في هذا العام الميلادي الجديد على موجةٍ ثورية ثالثة ذات عزيمة ومشاركة شعبية أكبر، وبامتداد جغرافي أوسع، وباحتمال نجاح أكبر، خصوصا إن تمكّنت من تطوير هياكلها التنظيمية أولا، ومن ضمان ديمومتها النضالية ثانيا.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”