كتب: قطب العربي
مرت ثورة يناير بجولات من المد والجزر، أو الانتصارات والانكسارات، وما تعيشه حاليا هو حالة جزر أو انكسار ضمن تلك الجولات التي لم تنته فصولها، شأن كل الثورات التي مرت بجولات مماثلة ولفترات طويلة حتى استقرت تماما وأتت أكلها بعد حين.
كتبت من قبل في هذا المكان مقالا بعنوان “مكاسب يناير الباقية بعد 11 عاما”، ذكرت فيه بعض تلك المكاسب ومنها الروح الجديدة التي صنعتها الثورة والتي تظهر في هتافات بعض المظاهرات، وقفزة الوعي لدى الشعب، ناهيك عن المكاسب المادية الواضحة؛ وأهمها الرئيس المدني، والدستور المدني، والبرلمان المعبرعن كل التنوعات السياسية، ومحاكمة رموز النظام السابق، وتحرير الجامعات والنقابات، وتوفير الحريات العامة، وشعور المواطنين بكرامتهم داخل مصر وخارجها. لكن غالبية هذه المكاسب دفنت تحت عجلات الانقلاب الغاشم في 3 تموز/ يوليو 2013.
لقد كانت تلك المظاهر مثل عرض ترويجي مجاني يمكننا أن نشبهه – مع الفارق – بالعروض الترويجية للسلع غالية الثمن، التي يسمح باستخدامها مجانا خلال فترة العرض، على أن يدفع ثمنها من يريد امتلاكها بعد ذلك، وهو ما يفعله أحرار مصر حاليا.
يحق لنا الآن بعد 11 عاما أن نطرح السؤال الافتراضي.. ماذا لو انتصرت الثورة وتحكمت في مفاصل الحكم واستقرت أوضاعها؟
الإجابة بسيطة، وهي أننا كنا سنرى مصر أخرى، أو جمهورية جديدة حقا يمقاييس الدول الحديثة..
جمهورية مدنية ديمقراطية بعد 60 عاما من الحكم العسكري، تتنافس أحزابها في تقديم الرؤى والحلول لمشاكل الوطن والمواطن، وتتداول الحكم عبر انتخابات شفافة كتلك التي جرت بعد الثورة.
جمهورية تحفظ كرامة مواطنيها، وتحقق الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهم، تطبيقا لأول شعارات الثورة.
جمهورية تقيم العدل بين الناس، وفق قوانين نزيهة وقضاء مستقل استقلالا حقيقيا، لا يصدر الحكم بعد المكالمة.
جمهورية تحمي حدودها وتحافظ على أرضها وجُزرها.. هل كنتم تتوقعون أن يتم التفريط في تيران وصنافير مثلا في ظل حكم الشعب؟!
جمهورية تحمي نيلها وحصتها المائية مهما كلفها ذلك من ثمن.. هل كان الشعب سيسكت على حاكم مدني فرط في مياه النيل وحصص مصر التاريخية فيه؟
جمهورية تحمي صحة مواطنيها، وتحرص على تقديم التعليم الجيد لهم، وتلتزم بالنسب الدستورية المخصصة للمجالين.
جمهورية تضمن توزيعا عادلا للثروات، يقود اقتصادها القطاع المدني لا العسكري، تنفذ مشاريع تنموية حقيقية تعود بالنفع على الوطن وعلى عموم الشعب، وليس مشاريع استعراضية تستنزف دون ضرورة حقيقية، بل إن بعضها يمثل عبئا على الاقتصاد الوطني.
جمهورية تحافظ على ثرواتها، وتحسن استغلالها، ولا ترهق موطنيها الحاليين أو المستقبليين بمليارات الديون.. هل تتوقعون أن الشعب كان ليسكت على حاكم مدني منتخب يستدين كل هذه الديون الحالية؟!
جمهورية يعتز فيها الشعب بجيشه، ويوفر له ما يحتاجه للتسليح والتطوير والتدريب، ولكنه يُخضع ميزانيته لرقابته، ويحافظ على هيبته، وعلى مكانه على الحدود والثغور.
جمهورية تفتح الأفق لشبابها ليشاركوا في بناء وطنهم، وتوظيف مهاراتهم وإبداعاتهم بدلا من تركهم أو حتى دفعهم للهجرة عبر مراكب متهالكة ليلتهمهم البحر وحيتانه.
جمهورية تواجه الفساد بحزم وبإرادة حقيقية، وتحمي الجهات المكلفة بهذه المهمة لا أن تطاردهم وتحبسهم.
جمهورية تزهو بنفسها بين الأمم، وتتعامل بكبرياء يليق بتاريخها وبثورتها التي أبهرت العالم، وترفض أن تكون ذيلا أو تابعا لأحد.
جمهورية الأمن لا جمهورية الخوف، الشرطة فيها في خدمة الشعب وليس العكس.
ليس هذا توقعا أو طلبا لمستحيل، وكما ذكرنا من قبل فقد قدمت الثورة “بروفة” لبعض هذه المظاهر خلال فترة العامين ونصف العام قبل الانقلاب، كما أن هذه المظاهر هي القائمة في الدول التي شهدت ثورات شعبية حقيقية، أو تحولات ديمقراطية وأصبح الحكم فيها مدنيا ديمقراطيا تداوليا، حيث يحرص جميع المتنافسين والحكام على كسب رضا الشعب وإسعاده.
لقد تحولت فرنسا إلى جمهورية عظمى تصدر مبادئ الحرية وحقوق الإنسان بعد ثورتها، وتحولت روسيا إلى إمبراطورية مترامية الأطراف (الاتحاد السوفيتي) بعد ثورتها، وتحولت إيران من شرطي أمريكا إلى عدوها الأكبر بعد ثورتها، وتحولت كل الدول التي انتقلت من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي في شرق أوروبا وآسيا وأفريقيا إلى نمور اقتصادية، وهذا ما كان ينتظر مصر.
راجعوا فقط دستور الثورة الصادر في 2012 لتروا المستقبل الذي كان ينتظر مصر والمصريين، ستروا بابا عن الدولة والمجتمع يؤكد في مادته الأولى أن نظام الحكم ديمقراطي (لا عسكري)، ويعطي حقوقا جديدة للمسيحيين في نفس الوقت الذي يمنح الأزهر وشيخه استقلالا حقيقيا حال دون تغول السيسي عليه حتى الآن، ويلزم الدولة بحماية نهر النيل وموارد المياه، والجزر والممرات المائية، ويجرم مصادرة الأموال.
كما تضمن بابا للحريات العامة يضارع أحدث الدساتير العالمية، يحمي الحقوق والحريات في أوسع صورها، ويعاقب من ينتهكها مهما علا شأنه، ويمنع حبس المواطن 24 ساعة دون تحقيق أو قرار قضائي، ويضع السجون ومراكز الحبس والاعتقال تحت إشراف تام للقضاء، ويحفظ حياة المواطنين الخاصة ويجرم التجسس عليها، ويحمي تدفق المعلومات ويحاسب من يعرقل ذلك، ويضمن حرية واستقلال الصحافة ووسائل الإعلام، ويجرم إغلاقها، كما يمنع الحبس في قضايا النشر، ويسمح بالتظاهر بمجرد الإخطار وكذا الاجتماعات الخاصة، ويوفر النزاهة التامة للاستفتاءات والانتخابات ويمنع أي تزوير او تدخل أجهزة الأمن فيها، كما يضمن استقلالا حقيقيا للقضاء ونزاهته.
قد يقول البعض إن الدستور الحالي يتضمن الكثير من هذه البنود، والحقيقة أن الدستور الحالي هو نفسه دستور الثورة بعد إدخال تعديلات عليه في العام 2014، وفي 2019 والتي سمحت للسيسي بالبقاء في السلطة حتى العام 2030، مع منح الجيش مسئولية الدفاع عن مدنية الدولة!! لكن الأهم من كل ذلك أن النظام القائم رغم ما أدخله من تعديلات إلا أنه يظهر عداء للدستور الذي وصفه السيسي بأنه كتب بحسن نية؛ بينما الدول لا تبنى بحسن النوايا كما قال!! ولذلك فإنه لا يهتم كثيرا بتطبيق نصوص الدستور حين تتصادم مع رغبته، بينما كان الوضع سيتغير تماما في حال وجود حكومة مدنية ديمقراطية منتخبة، حيث ستكون حريصة من تلقاء نفسها على احترام الدستور، وإن تجاوزت فهناك من يردعها ويحاسبها في البرلمان والصحافة والهيئات المستقلة.
على كل حال، فإن أحلام يناير مؤجلة ولم تمت في نفوس المصريين، لأنها ببساطة أحلام بل مطالب فطرية يولد بها الإنسان ولا يرتاح للعيش بدونها، وسيظل الشعب يردد تلك المطالب مهما كلفه ذلك من ثمن “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية”.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”