كتبت: إحسان الفقيه
يُحكى أن الإسكندر قال لحكماء الهند: لِمَ صارت سُنن (قوانين وشرائع) بلادكم قليلة؟ قالوا: لإعطائنا الحق من أنفسنا، ولعدل ملوكنا فينا، فقال لهم: أيهما أفضل، العدل أم الشجاعة؟ قالوا: إذا استُعمل العدل أغنى عن الشجاعة.
ما إن يُذكر العدل حتى تترجم ملامحه في الأذهان على أنه قيمة من القيم العليا، التي هي مركز الإنسان، كما يقول علماء النفس، أو هو حقٌّ أصيل للجماهير، مكفولٌ لها المطالبة به، أو هو شعار ثوريّ ينزعج منه الحكام المستبدون، ويعتبرونه خطرا يدق أبوابهم.
إن قيمة العدل أوسع وأشمل من ذلك، هو سبيل المجتمعات إلى الاستقرار والنهوض وجمع الكلمة، والطريق إلى قيام الدول وتثبيت أركانها، والقاعدة الذهبية التي اتفق عليها البشر جميعا: «العدل أساس المُلك». ومن أجل أهمية العدل للمجتمعات والدول، أدرجه الإمام الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين»، ضمن القواعد اللازمة لصلاح الدنيا واستقرار المجتمعات ونهوضها، فقال: «القاعدة الثالثة: «عَدْلٌ شَامِلٌ يَدْعُو إلَى الْأُلْفَةِ، وَيَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَتَعَمَّرُ بِهِ الْبِلَادُ، وَتَنْمُو بِهِ الْأَمْوَالُ، وَيَكْثُرُ مَعَهُ النَّسْلُ، وَيَأْمَنُ بِهِ السُّلْطَانُ».
فمتى وجد العدل سادت الألفة بين الناس وبينهم وبين حكامهم، ومن ثم انصرفت الهمم للبناء والإعمار والإنتاج، إذ إن العمل مبناه على الأمن، والأمن مبعثه العدل، وقد نقل ابن عبد ربه في كتاب «العقد الفريد» عن عمرو بن العاص قوله: «لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل».
إقامة العدل القانوني والسياسي والإداري والاجتماعي، بما يستلزمه من توزيع عادل للثروات والفرص والامتيازات، والتعامل على مبدأ تقديم الكفاءات، من شأنه أن يوفر مناخا صحيا للتطوير والعمل والإنتاج، حين يشعر المرء أنه لن يُظلم ولن يُبخس حقه، ويكون دافعا للمواطن لأن يُبقي ضميره حياً، وينطلق في عمله لصالح بلاده بدافع ذاتي، بخلاف من يعيش تحت وطأة الظلم، تعكس تعاملاته وسلوكياته آفات الازدواجية والأنانية وقلة الضمير، ولذا يؤكد الماوردي على أنه ليس أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور.
ومن شأن إقامة العدل تعزيز الانتماء للوطن، ويترجم ذلك إلى سلوكيات عملية ينتهجها الأفراد، كالحفاظ على المنشآت والمرافق والمصالح العامة، بخلاف الذين يعيشون تحت مظلة الجور، تجدهم غالبا يسلكون مسالك عدوانية تجاه تلك المرافق والمنشآت، لشعورهم بأن الدولة تظلمهم وتنتقص من حقوقهم.
العدل فريضة إلهية، وفريضة إنسانية، وتخلف العدل يهدم أركان التعاقد القائم بين الحاكم والمحكوم، ويلغي شرعية السلام المفترض بين الطبقات الاجتماعية، لأن هذا السلام رهن بتكافل هذه الطبقات في تحقيق الضرورات الواجبة لسائر أعضاء الجسد الاجتماعي، كما يؤكد المفكر الراحل محمد عمارة، وفي المقابل يعزز إقامة العدل من انتماء الرعية إلى راعيها وحاكمها، ودعمه ونصرته، ومن هنا ندرك أن العدل أفضل ما تُساس به المجتمعات، وهو الضامن لاستقرار الحكم والحكام لا القمع والترهيب والعسف. الظلم يورث الذل، الذي هو أشد ما يفسد فطرة الإنسان ويحطم فضائله ويغرس فيه صفات العبيد، وهي كما عبر أحد الأدباء: «استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرد حين يرفع عنها السوط»، فهؤلاء الذين يعانون الازدواجية ولا تثبت لهم قدم على مبدأ، أنى لهم أن يكونوا أدوات بناء في مجتمعاتهم؟ من شأن الجور أن يحجب عن الفرد – الذي يقع عليه الظلم ـ رؤية أي شيء إيجابي في حياته، لأن وقْع الظلم يجعله لا يرى غيره، ولا يهتم لسواه، ولا ينصرف تفكيره إلا إليه، وقد حُكي أن رجلا قال في حضرة أعرابي: ما أشد وجع الضرس، فقال الأعرابي: «كل داء أشد داء»، فصاحب الداء لا يرى شيئا أشد منه، فلا يرى أنه في عافية ممن هو أشد منه مرضا، وهكذا من وقع عليه الظلم، ينسيه ما حوله من مواطن الخير، ومن ثم يفقد الثقة في مجتمعه وحاكمه، فيفقد حينها انتماءه لهما، ويصير سعيه مبنيا على تحقيق منفعته الشخصية لا غير، فكيف يتوقع من مثله أن يهتم بالمصالح العامة، أو أن يكون عنصرا فعالا في بناء مجتمعه؟