كتب: عربي بومدين
تمثل مصر حالة فريدة في دراسة العلاقات المدنية – العسكرية، حيث بيّنت تجارب دول جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية أنّ الثورة الشعبية نتائجها قد تكون ضعيفة في تحقيق السيطرة المدنية على القوات المسلحة؛ ففي إسبانيا وتشيلي على سبيل المثال كان نهج خيار التفاوض أمرا حاسما في الإصلاح العسكري والتحول الديمقراطي، ومن ثم فإنّ مسألة التوافق السياسي بين المدنيين، وبناء الثقة مع العسكر، مسألة ملحّة وضرورية في مسار إعادة بناء العلاقات المدنية العسكرية في مصر، وتحقيق التحوّل الديمقراطي على المدى البعيد.
تطرح المنطقة العربية، وبالتحديد مصر، نموذجا خاصا في العلاقات المدنية العسكرية؛ وبخاصة مع انفتاح الجيش على الحركة الاحتجاجية التي طالبت بإسقاط نظام حسني مبارك، وإنهاء العقود الطويلة من الاستبداد والسلطوية، فقد نجح التحالف الواسع من الأحزاب السياسية والقوى الشبابية في زحزحة بنية النظام، ما استدعى تدخل الجيش، وهو المؤسسة الأكثر تماسكًا بين مؤسسات الدولة، وهو الأمين على عقيدة النظام، بهدف إنقاذ النظام نفسه، والتخلّص من ثقل التوريث.
ولكن لم يكن لهذه العملية أن تتم من دون السعي إلى احتواء المد الثوري، وهو ما انتهى إلى تبنّي الجيش لشرعية الثورة واستمالة الجماهير، بالنظر إلى الرصيدين، التاريخي والشعبي، اللذيْن يتمتع بهما الجيش في المخيال الشعبي لدى عموم المصريين.
يتشكّل النظام السياسي المصري من نواة صلبة تنحصر في الفواعل الرئيسة، وهي: الجيش، الرئاسة، الأمن وقوات الشرطة، الاستخبارات العسكرية، في حين أنّ الأحزاب السياسية، البرلمان، الدستور، المجتمع المدني، الصحافة، وكل ما يرمز إلى الحياة المدنية يمثل أدواتٍ في عمل (واستمرارية) النواة الصلبة داخل النظام السياسي، وأبرزها مؤسسة الجيش وكبار ضباطها.
وبهذا المعنى، ليس الشعب موجودا، وهو يمثل عبئا على النظام السياسي منذ “ثورة الضباط الأحرار” في عام 1952. صحيح أنّ الحياة المدنية كانت مزدهرةً مع الفترة الملكية والحقبة الليبرالية؛ من خلال حزب الوفد وبقية الأحزاب الناشطة في تلك الفترة، أو من خلال التجربة الدستورية التي أجهضها الضباط الأحرار؛ مُستغلين الدعم الجماهيري ودعم الفلاحين والمزارعين الذين عانوا في فترة حكم محمد علي وما بعده.
مثَّل هذا الإرث التاريخي استمراريةً أبت القطيعة مع الماضي سياسيا ومجتمعيا، فقد كان من الطبيعي أن يبقى المجال العام مُغلقا، ويستمر الحكم في العسكر، بحكم تنظيمهم، وتشتت القوى المدنية التي واجهت الإقصاء.
وحتى عندما أتيحت لها الفرص أجهضت تجاربها إما حماسة، أو بفعل سطوة كوربوراتية العسكر الذين لا يقبلون حاكما في مصر من خارج العسكر، وينظرون إلى المدنيين على أنهم “عيال”؛ أي غير قادرين على قيادة بلد بحجم مصر وحكمه. لقد استمرّت السلطوية في مصر منذ العام 1954، وكان من الطبيعي أن تستفحل في ظل نظام حسني مبارك، بفعل سياسات اللبرلة والتحرير الاقتصادي، وطغيان الصبغة الأمنية في إدارة الشأن العام.
ولا مراء في القول إنّ نظام يوليو الذّي تأسّس على أنقاض الملكية الدستورية وصل إلى حدّ التشبع، ذلك أنّ الجسد الاجتماعي المتمثل في القوى الثورية كان في مواجهة الجسد السياسي في صورة السلطة الحاكمة التي تخلى عنها العسكر، حين أدركوا أنّ نظام يوليو مهدّد من الأساس، لتجري التضحية برأس النظام، وضمان استمرارية بقاء النظام، ليعيد إنتاج نفسه، وبأدوات جديدة.
ولعل مسحا للطريقة التي تعامل بها الرؤساء المصريون السابقون مع العسكريين ستكشف لك عن ذلك، وستفسر أكثر لماذا هذا التغوّل الكبير للمؤسسة العسكرية في السياسة المصرية: فعلى سبيل المثال، ما يمكن ملاحظته في حكم مبارك سعيه الكبير إلى إضعاف أي محاولة للمؤسّسة العسكرية لمنافسته على السلطة.
وأهم الاستراتيجيات التي اعتمدها يمكن تلخيصها كالتالي: أولاً، في منعه المتطرّفين من الانضمام إلى القوات المسلحة، خصوصا المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والسلفية.
ثانياً، تطهير الجيش من الضباط رفيعي المستوى الطموحين آلية وقائية، فكانت إزالة وزير الدفاع عبد الحليم أبو غزالة مثالاً صارخاً على هذا التكتيك. ثالثاً، تنويع الفواعل الأمنية في القطاع الأمني للدولة من خلال تعزيزه دور وزارة الداخلية. وعلى عكس أسلافه الذين اعتمدوا، بشكل أساسي، على مديرية المخابرات العامة. اعتمد مبارك على المديريات الثلاث السرّية: مباحث أمن الدولة/ مديرية المخابرات العسكرية/ مديرية المخابرات العامة.
وقد تبنّى مبارك مثل هذا، ليس فقط لإضعاف المؤسسة العسكرية، وإنما أيضا، ببنائه شبكة أمنية مشدّدة بشأن نظامه، تتألف من عدة فروع عسكرية وشبه عسكرية، تتنافس باستمرار على السلطة، يريد بقاء الجهاز الأمني مشتتا وغير مركّز، خصوصا أن معظم هذه القوات تتألف من مقدّمي الطلبات العسكرية الريفيين الأميين والفقراء. رابعا، ربط القوات المسلحة بنظام المحسوبية من خلال تقديم ما كان يسمّى “بدل الولاء”، وهذا يشمل كبار الضباط الذين وعدهم ببدل إضافي لدى تقاعدهم، والذي يأتي عادة في شكل وظائف مضمونة في قطاع الدولة. ويتطلب هذا الاستثمار في “بدل الولاء” بناء اقتصاد موازٍ (عسكري)، يؤدي إلى إشراك المتقاعدين العسكريين في كل ركن من أركان الجهاز الإداري للدولة.
نظام المحسوبية هذا الذي أسّسه مبارك منح استقلالية اقتصادية ومؤسّسية وقضائية كبيرة للجيش، طمعا في الطاعة السياسية والولاء لنظامه، والذي بدوره مكّن لجمهورية الضبّاط بتعبير يزيد صايغ، فطوال فترات الحكم المتعاقبة، لم يخضع العسكر لأي رقابة مدنية، ما عدا رقابة الرئيس، والذي كان رجلا عسكريا لعهدات ثلاث منذ جمال عبد الناصر؛ فعلى الرغم من إنشاء “وكالة المراقبة الإدارية” (إحدى وكالات الرقابة العديدة في مصر، تأسست عام 1958 للتحقيق في الانتهاكات الإدارية والمالية ومكافحة الفساد في جميع أنحاء البلاد وفي جهاز الدولة بأكمله)، إلا أنها لا تستطيع أن تمارس ولايتها على القوات المسلحة.
مثّل العام 2011 أكبر تحدٍّ واجه نظام يوليو 1952، حيث لم تكن السلطة الفعلية الحاكمة في مصر في ثنائية الجيش والرئاسة تتوقع هذا الشرخ الكبير في أركان النظام، فبعد إحساس قلب النظام، وهو الجيش، بالخطر على النظام القائم منذ 1952، تدخل ليزيح الرئيس مبارك، ويحافظ على ديمومة (واستمرارية) النظام الذي يعني، بالضرورة، استمرار المصالح المؤسّسية للقوات المسلحة، واستمرارية الالتزامات الخارجية في علاقة مصر بمحيطيها، الإقليمي والدولي. الحقيقة أن الثورة الشعبية كانت علامة فارقةً واستثنائيةً في البحث عن التحرّر من الاستبداد والسلطوية التي عمّرت عقودا طويلة، لكن المعركة الحقيقية منذ هزيمة 1967 كانت بين الجيش والأمن بشأن الاستيلاء على الرئاسة، في حين أنّ البقية، ومن بينها المجتمع، مثلت أدواتٍ للسيطرة وحسم هذا الصراع.
لقد تجلى صراع الجيش والرئاسة منذ هزيمة 1967؛ حيث سيطر عبد الحكيم عامر على الجيش، في حين حاول جمال عبد الناصر التحكّم في الشارع والجماهير، والسيطرة على جهاز الرئاسة من خلال تقوية قوات الأمن والدّاخلية، إذ يفيد المؤرخ المصري، خالد فهمي، بأنّ عامر حاول التخلص من عبد الناصر في محاولة انقلابية. ومنذ ذلك الوقت، دخلت مؤسستا الرئاسة والجيش في صراع مستديم. في جانب آخر، فقد عبد الناصر التأييد الجماهيري الذي كان يرتكز عليه في حكمه. وبناء على ذلك، جرى تأسيس الأمن المركزي بعد خروج المظاهرات والجماهير ضده، حيث كانت حدثا مفاجئا في العام 1968.
وعلى صعيد آخر، ظهر صراع الجيش والرئاسة أيضا في التهميش الظاهري للقوات المسلحة في فترة حكم مبارك، وفي قضية وزير الداخلية حبيب العادلي، والتجسّس على رجالات الجيش. وكذلك قضية التوريث التي مثلت هي الأخرى مجالا للصراع بين الرئاسة والجيش. باختصار، فإنّ الجيش في الفترة (2013 – 2011) اكتسب الأرض التي فقدها في 1967، وعمل على الاستيلاء على الرئاسة، وكذلك السيطرة على جهاز الأمن.
كان العام 2011 حدثا غير مألوف في الشارع المصري، وحجم المظاهرات كان غير مسبوق. لكن المهم، في هذا السياق، هو كيف تمكّنت السلطة الفعلية الحاكمة في مصر بعد الصدمة الأولى من احتواء الحراك الشعبي والتحكّم فيه، على اعتبار أنها تدرك جيدا أن هذه الجماهير حتى ولو كانت أعدادها بالملايين لن يكون تأثيرها كبيرا، ما دامت غير منظّمة، بحسب خالد فهمي، فأدوات التحكّم سواء عن طريق الأمن المركزي أو عن طريق التلاعب بالأحزاب، التي يكون دورها احتواء الشارع والمعارضة، وليس التعبير عنها في الأنظمة السياسية المغلقة.
صحيحٌ أن هذه الأدوات فشلت في فترة 2011، إنما الدرس العميق هنا أنه في عدم استطاعة الجماهير تنظيم نفسها يمكن تحريك الجماهير والتلاعب بها. يعود هذا الأمر بنا إلى أحداث 9 و10 يونيو/ حزيران 1967، أين نزلت الجماهير بعد الهزيمة، ليس لمحاسبة المسؤول عن الهزيمة ومعاقبته، بل طالبته بالبقاء في منصبه.
ولفت هذا الأمر مؤرخين كثيرين، وأحال إلى سؤال: هل كانت هذه الجماهير عفوية أم مُسيرة؟
في هذا السياق، كان هناك حدث مفصلي في 1962، وهو السند الذي يعطينا مفتاح طريقة نظر السلطة الحاكمة إلى الشعب. والتي تعني أن الشعب ما دام غير منظّم يمكن التلاعب به. وفي هذا الإطار، يشير فهمي إلى الصراع الذي كان موجودا بين عبد الناصر ووزير الدفاع عامر، حيث قرّر عبد الناصر إنشاء مجلس رئاسي مكون من خمسة ضباط، أي أعضاء من مجلس قيادة الثورة القدامى وتعيين عامر فيه؛ بشرط أن يتخلّى عن قيادة الجيش، وهذا ما رفضه عامر بشدة.
إلى أن اقترح عليه زكريا محي الدين، رجل الأمن الأول في مصر والمستشار الأساسي لعبد الناصر، في ديسمبر/ كانون الأول 1962، أن يعلن عن التنحّي عن الرئاسة، وفي هذه الحالة، ستنزل الجماهير إلى الشارع للمطالبة ببقائه، وعندها سيضمن تحييد عامر.
استخدام الشعب وسيلة من وسائل إدارة الصراع الداخلي بين الجيش والرئاسة وحسمه مسألة تاريخية راسخة في السياق المصري، وتعزّزت بشكل واضح في عام 2013، عندما طالبت الجماهير بإسقاط نظام الإخوان المسلمين.
نجح التحالف الواسع من المنظمات السياسية والحركات الاجتماعية والشبابية في إحداث صدع خطير في بنية النظام، استدعى تدخل الجيش، المؤسسة الأكثر تماسكًا بين مؤسسات الدولة، والأمين على عقيدة النظام، بهدف إنقاذ هذا النظام نفسه.
ولكن لم يكن لهذه العملية أن تحدث من دون السعي إلى احتواء المد الثوري، وهو ما انتهى إلى تبنّي الجيش شرعية الثورة، مع السعي إلى الحد من امتداد أصدائها إلى ما هو أبعد من تغيير رأس النظام، وعِوَض أن يكون الشارع فاعلا سياسيا في مهمة إعادة النظر في بنية العلاقات المدنية العسكرية؛ مثَّل مُتغيرا تابعا في سياق المرحلة الانتقالية وما بعدها.
دخلت القوى السياسية والشبابية في حالة استقطابٍ حادّة، كان الجيش فيها المستفيد الأكبر. وبدل أن تتفق القوى السياسية على إنهاء النظام العسكري، والشروع في مأسسة السيطرة المدنية؛ عملت بعض هذه القوى على استدعاء الجيش للتدخل لحسم الصراع السياسي، وإزاحة الخصوم السياسيين، إذ لم تعرف أيٌّ من تجارب العالم مثل هذا الاستقطاب الحادّ في معسكر قوى التغيير؛ فمعارضة أوروبا الشرقية ولدت موحدة تقريبا، ولم تتمايز إلا بعد فترة معقولة من التحوّل، في حين أن معارضة أميركا اللاتينية نجحت بذكاء في تأسيس جبهات وطنية، ضمّت قوى اليسار الراديكالي والديمقراطيين المسيحيين في معسكر واحد؛ قادر على التفاوض مع المؤسسات العسكرية.
لا مراء في القول إنّ للجيش في مصر حسّا تاريخيا وإدراكا لمصالحه وكيفية الدفاع عنها، وله عقلية مؤسّسية، وهو يعمل الآن على استراتيجية بعيدة المدى، بما فيها تقدير الأمور للأجيال القادمة. فعلى سبيل المثال، يمنح قانون أقرَّه مجلس النواب المصري في 16 يوليو/ تموز 2018، متعلق بالقوات المسلحة المصرية، رئيس البلاد قدرةً أكبر على حماية كبار الضباط من الملاحقة القانونية، ويعزّز سيطرته على المؤسسة العسكرية.
إضافة إلى ذلك، هنالك تعديلان قانونيان هامّان داخل البرلمان المصري في يوليو/ تموز 2020: الأول، يختصّ بترشّح ضباط الجيش العاملين أو المتقاعدين للرئاسة والمجالس النيابية أو المحلية، ويكون ذلك بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وفي هذه النقطة، هناك تناغم بين ضباط الجيش الكبار والرئيس عبد الفتاح السيسي؛ أي مؤسسة الرئاسة. والثاني: تعديل قانوني ينص على أنّ للجيش حق تعيين مستشارين في كل محافظات مصر.
وفي هذه الخطوات، وغيرها كثير؛ الجيش، وبالتحديد المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو من يتحكّم في الرئاسة وليس العكس، وبالتالي استعاد الجيش المساحة التي ضاعت منه منذ 1967، عندما تم تحييد عبد الحكيم عامر.
في جانب آخر، الصراع الآن مع الإخوان المسلمين هامشي، والصراع مع الأحزاب المدنية الأخرى أكثر هامشية. ومن ثم، لا بد أن تنطلق إعادة التوازن للعلاقات المدنية العسكرية في مصر من فهم الصيرورة التاريخية لعلاقة الجيش بالرئاسة.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”