كتب: سمير الزين
تعريف “الوطنية” الأكثر شيوعًا والأكثر سطحية، يقول إنها “الفخر الوطني” أو “الفخر القومي”، كما أنها التعلق العاطفي بالوطن والأمة اللذين ينتسب إليهما المرء، من دون غيرهما من الأماكن في العالم.
وتتضمن الوطنية مجموعة من المفاهيم والارتباط والانتماء إلى مكان جغرافي، والتضامن مع هذا الوطن والتضحية في سبيله. على الرغم من ذلك، يبقى مفهوم الوطن غامضًا والتعلق به والانتساب له أكثر غموضًا. على الرغم من غموض المفهوم، إلا أني أعتقد أنه يقع بين حدّين متطرّفين، بين مفهومين للوطن.
الأول، مفهوم غنيٌّ للوطنية، وهو الذي يعني أن انتمائي إلى وطني لا يعني تأييده ظالمًا أو مظلومًا، وأن مفهوم الوطنية لا يعني تكميم الأفواه، ولا يعني منعي من انتقاد السلطات التي تدير هذا الوطن، والاختلاف معها في قضايا كثيرة، وحتى يمكنني أن أدعو إلى إسقاطها وغيابها عن الساحة السياسية، لأنها لا تصلح لقيادة البلاد، وانتخاب غيرها.
وهذا لا يمنع أن أرى مصالح وطني في مكانٍ مختلفٍ عن المكان الذي تراه نخبتها الحاكمة، حتى أن الوطنية لا تمنعني من الانشقاق، والتعبير عن رأيٍ ضد الإجماع الوطني العام. لهذه الوطنية الغنية شروطٌ تؤسّس لغناها، على رأسها الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي في مجتمع مواطنوه متساوون في الحقوق والواجبات، ومتساوون أمام القانون والسلطات.
وبذلك يستطيع هذا المجتمع إدارة النقاش العام بشأن القضايا الرئيسية للوصول إلى حلول عبر الحوار حول القضايا الخلافية، وحسم بعضها الآخر عبر الانتخابات، مثل من يدير السلطة، والتي تقوم على التبادل، وفق قواعد النظام السياسي وآلية الحصول على أغلبيةٍ لإدارة البلاد من دون إلغاء الطرف الآخر المختلف مع السلطة، ما يمنحه الفرصة في الانتخابات المقبلة، لأن يسعى إلى تغيير الاتجاهات الانتخابية لجمهور الناخبين في الانتخابات التالية، والفوز فيها وإدارة السلطة عبر برنامجه.
الثاني، مفهوم فقير للوطنية، وهو الذي يتجلّى في بلداننا، يقوم على تقديس الحاكم، بصرف النظر عن الجرائم التي يرتكبها بحقّ بلده، والحاكم هو الطاغية الذي يقرّر كل شيء في البلد، لا نقاش، ولا حوار، ولا حرية رأي. وأي مواطنٍ يفكر في استخدام هذه الموضوعات، للتعبير عن خلافه مع السلطة، مصيره واضح، فإن السجن في انتظاره.
لذلك، على المواطنين (القطيع) أن يهلّلوا لما يقوله الطاغية ويفعله، لا حرية رأي ولا نقاش مع الحاكم، فهو الذي يعرف مصالح البلد أكثر من كل المواطنين، الذين هم مجرّد رعايا يُفضّل عليهم عندما يحكمهم. لا ديمقراطية أو انتخابات تأتي به إلى السلطة، إنه المنقذ للبلد، ومن دونه يتحوّل البلد إلى خراب، هو من يحدّد الأعداء والأصدقاء. لا تعمل المؤسسات إلا بفضله، فهو الذي يمنحها الوجود، ولأنها كذلك، فهي تشكر الطاغية يوميًا على بقائها، خالية من أي دور أو صلاحية، سواء كان الحديث عن برلمان أم عن وزارة.
ولا يعيش هذا الوطن على الحقوق والواجبات للمواطنين بالمعنى الذي تعرفه الدول الأخرى، بل له خصوصية تقوم على أن الواجبات تعني التأييد المطلق للسلطة، والحقوق تعني المنح التي يمنُّ بها الطاغية على رعاياه.
أما حرية الرأي فهي مكفولة، فالمواطن في مزارع الطغاة، يستطيع أن يمارس حرية الانتقاد لبلدان أخرى، مثل الهند والصين، والدول العدوة. هذا حق مشروع له، لكنه لا يستطيع أن ينتقد أي موقف لسلطة الطغيان التي يعيش في ظلها الثقل، لأن انتقادًا كهذا، يهدّد الدولة، ويزرع الشقاق بين المواطنين، ويصبح الرأي المختلف جريمة واقعة على أمن الدولة، تقود صاحبه/ صاحبته إلى المحاكم.
عندما يعلن الطغاة عن أولوية أوطانهم بوصفها تجسيدا لـ”الوطنية”، فهم يعنون أن “الوطنية” تتمركز حول سلطتهم، وطالما أن أولويتهم السلطة، فإن السياسة كلها تتمحور حول البقاء فيها. لذلك، عندما تُرفع شعارات “مصر أولًا”، “سورية أولًا”، “الإمارات أولًا”… إلخ، فليس من الغريب أن تكون هذه السياسات التي تُبنى على هذه الأولوية الوطنية سلطوية، وليست سياساتٍ تخدم المصالح الوطنية بالمفهوم العريض. لذلك، ليس من الغريب، أن يأتي اكتشاف الوطنيات الحديثة في العالم العربي الحديث متناقضًا مع ثوابت تاريخية.
طبعًا، من المفهوم أن تتغير الثوابت التاريخية، عندما تفقد مبرّر وجودها، فليس هناك موقف مطلق في التاريخ. لكن يحدُث هذا عندما تأتي الوقائع لتغير هذه الثوابت. أما عندما يكون هذا التجاوز لمصلحة الحكام ولتحول بمزاجهم، فهو ليس مصلحة وطنية، وهنا لا يكون ادّعاء الأولوية الوطنية فقيرًا، بل هو مضر أيضًا.
تأتي الوطنيات الفقيرة في المنطقة جرّاء تفكّك السردية القومية العربية التي كانت تتحدّى الأوطان القُطرية، بوصفها صنيعة الاستعمار. لكن هذه السردية أخذت تتحطّم منذ اتفاقات كامب ديفيد المصرية المنفردة مع إسرائيل، على أساس الأولوية لاستعادة الأراضي المصرية.
وعلى مستوى العلاقات العربية البينية، كان احتلال العراق الكويت قد حطّم السردية العربية الجماعية أيضًا، وأصبح التعامل مع الأشقاء بوصفهم أعداء مسألة عادية. وبتحطّم هذه السردية، نمت مكانها سردياتٌ وطنيةٌ فقيرةٌ تمركزت حول السلطة، خصوصا مع موجة توريث السلطات في الأنظمة الجمهورية التي طغت على دول المنطقة في تسعينيات القرن المنصرم، العراق، سورية، اليمن، ليبيا، حتى تونس التي لم يكن لرئيسها ولد.
المشكلة أن هذه السرديات الوطنية جاءت عدوانيةً ليس ضد الرابط القومي فحسب، وبل وضد الإنساني، فهي وطنياتٌ معجبةٌ بالأقوى ولا تتضامن مع الضعفاء، وهي شرسةٌ في مواجهة مواطنيها (رعاياها) وقمعهم.
كانت الثورات العربية فرصة تاريخية لتجاوز هذه الوطنيات الفقيرة، بتجاوز سياسات التلفيق والكذب التاريخي الذي اعتمدته السلطات في العالم العربي بديلًا عن الواقع الحقيقي، بالتحديق في الواقع الصعب ونقاش قضاياه الحقيقية، بوصف الإطلالة على الواقع الحقيقي لهذه البلدان، هو المدخل لحل مشكلاتها، ولصناعة وطنية غنية، قائمة على التعدّد والاعتراف بالآخر الشريك في الوطن، والمتساوي معي في القيمة والحقوق والواجبات.
هذه الفرصة التاريخية جرى إجهاضها بفعل عوامل عديدة، وتضامن قوى ظهرت أنها متناقضة، لكنها تكاملت في عدائها هذه الثورات، ونجحت في إجهاض التجربة الأكثر تعبيرًا عن القوى الحية في هذه المجتمعات. وبإجهاض التجربة، حصلنا على سلطات أفقر وطنيًا من سابقاتها، أو دول أكثر فشلًا، لدخولها في صراعات فئوية لا تنتهي.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”