كتبت: أميرة أبو الفتوح
حينما أعلن الطاغية “معمر القذافي”، تغيير سم دولة ليبيا لتصبح “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي”، وابتدع طريقة جديدة لحكم الشعب لنفسه، ليس عن طريق الديمقراطية وصندوق الانتخابات كما هو متعارف عليه في العالم، بل اختار ما أسماها بـ”اللجان الشعبية” ووضع على رؤوسها مخبريه ومريديه وأنصاره، زاعما أنه لن يكون هنالك رئيساً يحكم ليبيا، بل الشعب الليبي هو مَن سيحكم ليبيا بنفسه من خلال تلك اللجان الشعبية، واكتفى بأن يكون ملك ملوك أفريقيا!!.. عندما فعل كل هذا اتهمه الكثيرون في العالم بعدم سلامة قواه العقلية وبالجنون، وضحكنا كثيراً على سلوكه غير السوي هذا.
ولكن الحقيقة أن الرجل لم يكن مجنوناً ولا معتوهاً، بل كان يدرك تماما ما يفعله، ويعلم أن الشعبوية هي الطريق الأمثل للحفاظ على حكمه وإشباع نزعته السلطوية. وهكذا كل الطغاة المستكبرين في الأرض، إلى أن تأتي لحظة الحقيقة اللحظة الصادمة الكاشفة، التي كانت غائبة تماماً عن أذهانهم، عندما يسقط كرسيهم وتتبخر آمالهم وأحلامهم وتخور قواهم، ويستجدون شعوبهم التي استعبدوها؛ أن ترحمهم. وهذا ما رأيناه مع القذافي في ليبيا وستالين في روسيا وتشاوشيسكو في رومانيا!
ولكن الطغاه لا يعتبرون ولا يتعظون من الذين سبقوهم على مر التاريخ، وها نحن نرى “قيس سعيد” في تونس يسير على درب القذافي، بل تفوق عليه تمشياً مع مقولة أن “التلميذ يتفوق على أستاذه”. فديكتاتور ليبيا السابق جاء على ظهر دبابة لحكم ليبيا، وقام بانقلاب عسكري أتاح له أن يفعل ما يشاء، أما تلميذ القذافي التونسي “قيس سعيد” فجاءت به ثورة عظيمة؛ خلعت ديكتاتوراً وأقرت دستوراً وأقامت حياة ديمقراطية سليمة، مكنته من خوض الانتخابات الرئاسية والفوز فيها عبر صناديق الاقتراع، فإذا به بعد أقل من عامين على انتخابه، وفي ليلة ظلماء يوم الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي، ينقلب على الدستور وعلى كل المؤسسات التي انبثقت منه، أي أنه انقلب على المسار الديمقراطي ككل، فأغلق البرلمان وجمد عمله ورفع الحصانة عن نوابه، وفرض حالة الطوارئ في البلاد، ثم أقر مجموعة من القوانين الإستثنائية وألغى جميع الجهات الرقابية.
وفي الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلن منح نفسه السلطة التشريعية كاملة، بعد السلطتين التنفيذية والقضائية اللتين اغتصبهما منذ بدء انقلابه، إذ أصبحت جميع السلطات في قبضة يده لتصبح تونس كلها ملك يمينه!
ومن البديهي أن يحول الحالة الاستثنائية التي ادعاها يوم انقلابه إلى حالة مستقرة ودائمة، وكأن ثورة لم تقم ولم تغير شيئاً ولم تفرض واقعاً جديداً، ليعود بتونس إلى حقبة زين العابدين بن على، حيث الشمولية والديكتاتورية وحكم الفرد، بل إلى حقبة الحبيب بورقيبة في الخمسينات والستينيات، ولكن بدون مؤهلات ولا قدرات ولا تاريخ يستند عليه ويشفع له.
فنضال بورقيبة المُشرف ضد الاحتلال الفرنسي، كان يشفع له عند معارضينه ويغفر له الكثير من زلاته وسقطاته، كما أنه لا يملك أيضا حنكة زين العابدين علي كي تمكنه من الحكم منفرداً. فقد جاء من المجهول من خارج عالم السياسة، ومن المفارقة العجيبة أنه جاء من خلفية أكاديمية في القانون.
لقد جاءت به ثورة الياسمين التي انقض عليها، وقضى على كل مكتساباتها والتي لولاها ما خطت قدماه قصر الرئاسة في قرطاج!
وآخر إبداعات أو لنقل خزعبلات القذافي التونسى، أنه اكتشف اكتشافاً خطيراً سيدوي صداه في العالم كله وسيفيد البشرية جمعاء، وسيقلب كل الموازين في تونس، وسيحل كل مشكلاتها الاقتصادية التي يعاني منها المواطن التونسي، وسيحل الرخاء على البلاد.
ففي خطبة عصماء أعلن أنه أكتشف أن مشكلة تونس تكمن في الدستور الذي أفرزته الثورة عام 2014، والذي أتى به رئيساً، ولكنه فجأة بعد أن وصل لسدة الحكم وجده غير صالح ولا يمكن أن يتواصل العمل به في السنوات المقبلة لأنه لا مشروعية له!
وبناءً على اكتشافه الخطير بأن الدستور غير شرعي، تكون بالتالي رئاسته لتونس غير شرعية ويجب أن يتنحي، ويعلن عن انتخابات رئاسية جديدة كما أعلن عن انتخابات تشريعية جديدة. ولكن الرجل تمادى في تحديه للشعب وأعلن في نفس الخطبة وبنبرته السلطوية المعهودة، أنه سيشرف على صياغة دستور جديد، مستشيراً الشعب بواسطة الإنترنت من بداية كانون الثاني/ يناير حتى 20 آذار/ مارس، وذلك من خلال منصات إلكترونية وعد بإنشائها، وكأن عامة الشعب ولا سيما فقراءه من رواد الإنترنت، وليعرضه بعد ذلك على الشعب للاستفتاء يوم عيد الجمهورية القادم، أي في الذكرى الأولى لاغتصابه السلطة، وتجرى بعد ذلك انتخابات تشريعية بموجب الدستور الجديد والقوانين الانتخابية التي سوف ترافقه، في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2022، يوم الذكرى الثانية عشرة للثورة التونسية..
يزعم تلميذ القذافي التونسي، أن الشعب سيمثل نفسه بنفسه بعد محو المؤسسات الوسطية، ولكن هذا الشعب وفقاً لخطبه يتكون من الأخيار والأشرار الذين وصفهم في الكثير من خطاباته بالميكروبات والجوائح والفيروسات والمجرمين والسفلة، إلى آخر توصيفاته القبيحة لكل مَن يخالفه.
أما الأخيار في نظره فهم الموالون له والمؤيدون لقراراته، هؤلاء هم شعبه، وبذلك لن يتعب كثيراً في اختيار ثلة من التونسيين ورفعها إلى مرتبة الأخيار ليمثلوا الشعب كله ويختصروه بأنفسهم، أي يصنع أغلبية على عينه، على قاعدة الولاء ويستغلها لتثبيت حكمه السلطوي..
لم يخف سعيد منذ بداية ترشحه عن نزعته القاعدية الشعبوية ولكن لم ينتبه إليها أحد، أو بالأحرى لم يأخذها أحد مأخذ الجدية، فغالبا ما يكون كلام المرشحين من قبل الدعاية ليس أكثر. فلقد أعلن صراحة عن ضيقه من التجربة البرلمانية الحزبية في برنامجه الانتخابي الرئاسي مما حشد له تأييداً شعبياً لم يكن يحلم به، فلقد ضاقت الجماهير ذرعاً بفساد الأحزاب وصراعاتها، وفقدت الثقة بسلوك الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة معا، وعدم قدرتها على تحسين أحوالها المعيشية المتدهورة..
سارع “الأخيار” من شعبه لتأييد قراراته، فقد صرح “وليد العباسي”، القيادي في حزب التيار الشعبي، بأن حزبه يؤيد ما جاء في خطاب الرئيس وخاصة ما تضمنه عن المشاركة الشعبية الواسعة، بحيث يمكن للجميع أن يشارك في الانتخابات والاستفتاء، وأضاف أن هناك أحزابا تلقت دعماً خارجياً وهناك من خالف القانون..
وسارع “الأشرار” لرفض قراراته واستيلائه على السلطة، فقد صرح “محمد القوماني”، أحد القادة البارزين في حزب النهضة، بأن ما أعلنه “سعيد” مؤخرا هو تكريس لانقلابه وستعمل الحركة على إفشاله بالتعاون مع كل القوى السياسية الوطنية، رافضاً اختطاف الإرادة الشعبية وندد بمحاولة الانفراد بالحكم..
وهنا نطرح تساؤلاً حول الاستفتاء الذي وعد بإجرائه القذافي التونسي: ما هي الضمانات التي تقدمها دولة سعيد للمواطنين كي يكون استفتاء حرا ونزيها؟ فالاستفتاءات في العالم كله عادة ما تُجرى ضمن قواعد ديمقراطية تضمن الرقابة والشفافية وحرية الاختيار، وهو ما لن يتوفر في ظل الوضع الراهن في تونس، حيث يقبض سعيد على كل السلطات في يده ويتحكم بكل شيء، وللأسف بدعم من الجيش. أما الاستشارة الشعبية المُزمع تنظيمها، فهي بلا أدني شك ستكون تحت السيطرة (under control)، يتحكم بمجرياتها أتباع الديكتاتور ويصبح الاستفتاء مجرد مسرحية متفق عليها وفي انتظار تصفيق الجماهير بعدما ينزل الستار، وهكذا كل الشعبويين يخفون نزعتهم السلطوية بالاحتفالات المزيفة التي يقيمونها لتمجيد الزعيم الأوحد..
لقد كتبت في أعقاب انقلابه في مقال سابق: “لقد أشرقت شمس الحرية على العالم العربي من تونس عام 2010، وأفلت وغاب عنها القمر عام 2021 بفعل المؤامرات الصهيوأمريكية العربية، والتي ترفض أن تقوم لكرامة الشعوب وحريتها قائمة، فهل لها من قيامة جديدة؟!”.
والإجابة تستنبطها من خطاب القذافي التونسي، مما يوحي بأن القادم أحلك ظلاماً وأعظم قتامة. فسعيد لا يجرؤ على إلغاء الدستور وكتابته بنفسه ما لم يحظ بدعم من دول عدة (لا تخفى على أحد)؛ تجد مصلحتها في إنهاء تجربة تونس الديمقراطية وجرها إلى شعبوية تمهد لديكتاتور فرد مدعوم من الجيش!
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر عن رأي “الرأي الآخر”