كتب: عمرو حمزاوي
للتنظيم الديمقراطي للدولة وللمجتمع بريقه الخاص. فهو حين يستقر، يمكن المواطنات والمواطنين من إدارة حياتهم الخاصة والإسهام في الشأن العام فيظل ضمانات للحريات ولحقوق الإنسان ولكرامته ولتكافؤ الفرص وبحث مشروع عن المبادرة الفردية.
بالقطع وبالتحرر من المقاربة المثالية للديمقراطية، تتفاوت حظوظ الناس وتؤثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية في درجات شعورهم بالحريات وحقوق الإنسان والمبادرة الفردية وممارستهم لها في الحياة الخاصة والعامة. إلا أن تمكين قطاعات تتسع باطراد يمثل قاعدة أساس للديمقراطية.
ويقترن بها دوما التحرر من الخوف النابع إن من قمع الحكام للمحكومين أو من تراكم المظالم المجتمعية. وفي الكثير من الحالات، توفر الحريات والحقوق والكرامة الإنسانية والمبادرة الفردية والتحرر من الخوف بيئة مساعدة على التميز الشخصي والإبداع وتدفع بالدولة والمجتمع المعنيين إلى التنمية المستدامة والتقدم.
أما حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول باتجاهها، تتراجع ضمانات الحريات وحقوق الإنسان وكرامته والمبادرة الفردية وتكافؤ الفرص. حين تغيب الديمقراطية، يمسك الخوف بالناس فيغتال التميز الشخصي ويقتل الإبداع ويحد كثيرا من إمكانيات المبادرة الفردية والتنمية المستدامة والتقدم في الدولة والمجتمع المعنيين.
حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول باتجاهها، تهيمن طوائف محدودي الكفاءة ومروجي خطاب الكراهية والإغلاق والإقصاء على الفضاء العام وتبتعد طاقة نور الحرية وحقوق الإنسان التي يحتاجها الفرد لكيلا تنزع عنه إنسانيته، وتحتاجها أيضا الدولة والمجتمع لكي توفر بيئة صحية للناس.
حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول باتجاهها، ينسحب من الفضاء العام العالم والمبدع والفنان والأديب ويتركونه فسيحا لضجيج فارغ المضمون في السياسة والإعلام تحت يافطة الحقيقة الواحدة والرأي الواحد والزعيم الواحد ويرتفع منسوب الكراهية والتشويه والتخوين وتوضع إجباريا النزعة الإنسانية القائمة على حب الاختلاف والتسامح خارج الخدمة.
على الرغم من ذلك، يجافي الصواب الاعتقاد بأن القبول الشعبي للتنظيم الديمقراطي للدولة وللمجتمع يستند فقط إلى ضمانات الحقوق والحريات الشخصية والعامة التي تقر دستوريا وقانونيا وتفعل سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. فبجانب ضمانات الحقوق والحريات، تدلل الخبرات التاريخية والمعاصرة للديمقراطيات على أن قبولها الشعبي يرتبط بأفضليتها مقارنة بالأنماط الأخرى للحكم ولإدارة الشأن العام لجهة تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلي.
وعد الديمقراطية، وهنا مربط الفرس، هو اقتران الحقوق والحريات بتحسن الأحوال المعيشية للمواطنات وللمواطنين وارتفاع مستوى الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية التي يحصلون عليها وتمكينهم بتمايزاتهم من المشاركة في النشاط الاقتصادي على أساس من تكافؤ الفرص والمنافسة وضمان مشاركتهم في الحياة الاجتماعية وكذلك ممارستهم للشعائر الدينية في إطار من المساواة والأمن.
وعد الديمقراطية هو اقتران الإقرار الدستوري والقانوني للحقوق والحريات بتنامي التزام الدولة ومؤسساتها وأجهزتها والتزام الكيانات الجماعية غير الحكومية بسيادة القانون والسلمية ومحاربة الفساد واستغلال المنصب العام. وعد الديمقراطية هو التنمية والتقدم والسلم الأهلي.
حين تغيب الديمقراطية، يمسك الخوف بالناس فيغتال التميز الشخصي ويقتل الإبداع ويحد كثيرا من إمكانيات المبادرة الفردية.
أما حين تخفق الديمقراطيات في تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلي، فإن حضور ضمانات الحقوق والحريات الشخصية والعامة لا يحول بين الناس وبين الاندفاع الجماعي نحو تأييد أنماط أخرى للحكم تبني قبولها الشعبي على وعد مضاد إن باستعادة التنمية والتقدم كما فعلت الفاشيات الأوروبية والآسيوية في النصف الأول من القرن العشرين والحكومات الفاشية والعسكرية في أمريكا اللاتينية في نصفه الثاني أو بإنقاذ السلم الأهلي وبناء الدولة القوية وتحقيق التحرر الوطني كما فعلت نخب الاستقلال (عسكرية ومدنية) في مصر والعديد من الدول العربية والإفريقية في النصف الثاني من القرن العشرين أو بخليط من كل هذا ومعه الحنين إلى الأمجاد الماضية للقوة العظمى كما يفعل اليوم فلاديمير بوتين ونخبة حكمه في روسيا الاتحادية.
وفي حالات أخرى كالصين التي لم يتطور بها أبدا التنظيم الديمقراطي استجابت أغلبية مستقرة من الناس لمساومة جماعية جوهرها قضاء الدولة على الفقر وضمانها للتقدم الاقتصادي والاجتماعي وللتنمية المستدامة وتخلي المجتمع، باستثناء مجموعات صغيرة من المفكرين والكتاب والصحافيين والحقوقيين وأساتذة الجامعات، عن المطالبة بالحقوق والحريات الشخصية والسياسية.
غير أن الإشكالية الكبرى هنا هي أن الخبرة التاريخية والمعاصرة لأنماط الحكم غير الديمقراطية تثبت عجزها عن تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلي والحفاظ على الاستقلال الوطني على نحو مستقر وتدلل أيضا على زجها بدولها ومجتمعاتها إلى أتون أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تنتهي.
ويستفيق الناس، وبعد اندفاعهم لتأييد التخلي عن الديمقراطية أو استبعادها من قاموس المرغوب به جماعيا أو بعد تماهيهم مع موجات الفاشية، على خسارتهم لكل شيء بغياب التنمية المستدامة والتقدم وانهيار ضمانات الحقوق والحريات.
هكذا انتهت الفاشيات الأوروبية الآسيوية والحكومات العسكرية في أمريكا اللاتينية، وهكذا كان السجل التاريخي للعديد من نخب الاستقلال في الدول العربية والإفريقية. ولم يبتعد عن خبرة فشل أنماط الحكم غير الديمقراطية في تحقيق التنمية المستدامة إلا دول كالصين ولها خصوصية جلية ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والمساحة والكثافة السكانية والموارد الطبيعية الهائلة ودول مثل سنغافورة التي تبنت نموذجا تنمويا ناجحا عماده قيادة نخبة الحكم للقضاء على الفقر ونشر التعليم ومحاربة الفساد وبعض الدول النفطية في الخليج.
يعني هذا، وأسجله اليوم في بداية العام الجديد أن الأمل في ضمانات لحقوقنا وحرياتنا وفي التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلي والدولة القوية العادلة يظل معقودا على استعادة القبول الشعبي لبناء الديمقراطية كحل وتمكين آلياتها وإجراءاتها من إحداث مفاعيلها التنموية في المجتمع دون انقطاعات.
يعني هذا أيضا، وبالنظر إلى حال عالمنا العربي، ضرورة وجود نخب سياسية واقتصادية ومجتمعية قادرة على التفكير بواقعية في مسارات بناء الديمقراطية، وفي سبل سلمية مبتكرة لمواجهة النزوع السلطوي الراهن، وفي التدرجية الضرورية للبناء الديمقراطي لتجنيب البلاد أخطار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وفي طرق إدارة التغيير الديمقراطي دون تجاهل لمركزية الوعد بالتنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلي.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”