كتب: ياسر أبو هلالة
منذ تأسيس إمارة شرق الأردن قبل مائة عام، اعتمد الهاشميون في علاقتهم مع مجتمعٍ، نصفه في ذلك الوقت بدوي والآخر فلاحي، على منح الناس “المكانة”، في غياب القوة الباطشة أو الثروات المغرية. ويرصد صاحب موسوعة “الأعلام”، خير الدين الزركلي، في كتابه “عامان في عمّان” ذلك، من خلال التوسع في منح الألقاب، خصوصاً “الباشا” وهو لقب موروث عن الإمبرطورية العثمانية، لكنّ الذين نالوه في تاريخها وامتدادها أقل ممن نالوه في الأردن، ما دفع الزركلي إلى نظم قصيدة عن أشعث أغبر يخبره في نهايتها “ألم يبلغك أنّي صرت باشا؟”.
أُلغي لقب الباشا رسمياً، إلّا أنّه ما زال يُورّث، ويُمنح لمن يحمل رتبة لواء فما فوق، ولرؤساء الوزراء وغيرهم. في حقبة الملك حسين ومن بعدها الملك عبد الله الثاني، ظلت “المكانة” أهم موجودات النظام في التعامل مع مجتمع تقليدي قبلي. وتمنح تلك المكانة “عطوفة ” للمدير العام، و”معالي” للوزير و”دولة” لرئيس الوزراء. ولا توضع أمام صانع القرار خريطة للقوى المدنية والحزبية لتوزيع الحقائب والمناصب، فالخريطة قبلية مناطقية (شمال وجنوب)، يراعي فيها الوصول إلى استرضاء أوسع شريحة ممكنة.
في مقابلة موقع “عمّون” مع رئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، يسأله رئيس تحرير الموقع، سمير الحياري، والذي يحمل أيضاً لقب باشا: “ألا تخشى أن تنهي ولايتك كما انتهت حقبة والدك .. حراك يطيح بها؟”. وكان والده، هاني الخصاونة، وزير الإعلام في حكومة زيد الرفاعي التي سقطت في الاحتجاجات التي شهدتها مدينة معان عام 1989. يجيب الخصاونة الابن: “أتمنّى أن أختم حياتي الوظيفية بذات السمعة الطيبة التي تميز بها والدي في العمل العام، والتي تتسم بالشرف ونظافة اليد والأمانة”… هنا الحديث عن “مكانة” تشريف لا أكثر، لا عن منصب سياسي. والواقع أنّ المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، فالخصاونة الأب بعثي قديم، كان رفيق صدّام حسين في سكنه في القاهرة، وظلّ على علاقة به إلى سقوط النظام في العراق. في الأثناء، احتواه الملك حسين بعيداً عن حزب البعث، وشغل موقع رئيس التشريفات الملكية في عز أحداث أيلول (1970)، وبعدها تقلّب في المواقع الديبلوماسية إلى أن دخل في حكومة زيد الرفاعي وزيرا للإعلام (1988).
سقطت تلك الحكومة بعد تسببها في تفجير الأحداث في نيسان عام 1989، عندما رفعت أسعار المحروقات ولم ترفع أسعار النقل. احتجّ السائقون في محافظة معان بالإضراب، فلم يعبأ أحد بتعطّل النقل في المدينة الجنوبية القصيّة، فتحرّكوا في الشارع وانضم لهم طلاب المدارس، وانتهى الأمر بإحراق مؤسسات الدولة، بما فيها سيارات الإسعاف في مستشفى معان.
كان الملك مسافراً، ويتولّى الأمر ولي العهد آنذاك الأمير الحسن بن طلال. وفي اجتماع مع مراسلي وكالات الأنباء والإذاعات العالمية، سألهم: “لماذا لا تنقلون وجهة نظر الحكومة” فقالوا إنّ وزير الإعلام لا يتجاوب، فطلب منه أن يجيب عن أسئلتهم، بعد اللقاء. وكما روت لي مراسلة “مونتي كارلو” ووكالة الصحافة الفرنسية، رندا حبيب، اتصلت بوزير الإعلام هاني الخصاونة، وبثت المقابلة. كانت الأحداث مقتصرةً على مدينة معان والجنوب، بعدها انضمّت السلط عاصمة البلقاء، بعد أن أشاد بعدم تحرّكها، مقللاً من شأن معان التي تحرّكت. تسببت تلك التصريحات في اتساع رقعة الاحتجاجات. وقطع الملك زيارته واشنطن، وأقال الحكومة، وأطلق مسار تحوّل ديمقراطي.
زار صدّام حسين (رفيق الخصاونة) الملك حسين تضامناً عقب الأحداث. وعلى هامش الاجتماع، سأل مرافق صدّام مرافق الملك: “كم واحدا قُتل في معان؟” أجاب: “12”. سأله: “كم عدد سكان معان؟” أجاب: “40 ألفا”. ردّ عليه بإعجاب: “زين .. هم الثلث يؤدبون الثلثين”! لم يتخيّل مرافق صدّام حسين أنّ البلاد يتغير مسارها السياسي ويقطع الملك زيارته واشنطن، ويغادر صدّام العراق لأجل 12، ولم يدرِ أنّ نصفهم من الأمن. اعتاد الملك التضحية بالحكومات بدلاً من التضحية بالناس. وكان الخصاونة ضحية بهذا المعنى.
هل تلك النهاية التي يتمنّاها الخصاونة الابن؟ المؤكد أنّه حصل على المكانة وصار باشا، وحصل على الرتبة والمرتب، وهذا كافٍ. ويسجّل له أنّه دستر مفهوم المكانة والتشريف في التعديلات الدستورية التي أوكلت لمجلس الأمن الوطني صلاحيات الدفاع والأمن والخارجية، ليبقى رئيس الوزراء باشا بين قومه، يحافظ على الموقع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإنْ غادر يؤمل بالعودة إليه أو بتوريثه للأبناء والأحفاد.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”