كتبت: إحسان الفقيه
من رحم روايات «أغنية الجليد والنار» لمؤلفها جورج آر. آر مارتن، خرج المسلسل الشهير «صراع العروش» بأجزائه الثمانية، وهو من نوعية الفانتازيا التاريخية، تم عرضه على إحدى القنوات الأمريكية، ولقي شهرة واسعة في أنحاء العالم.
ورغم شهرته في الدول العربية، إلا ان الشركة المنتجة لم يكن يدور في خلدها، أن تحظى بدعاية مجانية تعزز من شهرة المسلسل بين الجماهير العربية، وهو المسلسل الذي يحتوي على كثير من المشاهد الإباحية والعنف الدموي، ونحو ذلك مما لا يتفق مع الإطار القيمي والأخلاقي والذوق العام في الدول العربية.
الترويج للمسلسل تم عن طريق عمل دعائي جديد لموسم الرياض التابع لهيئة الترفيه السعودية، التي يترأسها تركي آل الشيخ مستشار ولي العهد السعودي، وبدا الإعلان محاكاة للمسلسل بأبطاله، الذين يتوزعون على سبع ممالك، يدور الصراع بينها على العرش، واستخدمت فيه ديكورات وملابس مميزة حتى تظهر المحاكاة واضحة جلية، بما في ذلك انتقاء وجوه تقترب من أبطال المسلسل في الشبه. سنتجاوز التساؤل عن سبب اختيار هذا المسلسل تحديدا، ليكون مركز الإعلان، وهو المُحمَّل بالكوارث الأخلاقية والقيمية ومنافاة الذوق العربي العام بشرائحه العديدة المحافظة، بما ينطوي التعريف به على خطورة بالغة على الأطفال والناشئة بصفة خاصة.
لكن حتما تستوقفنا استعانة تركي آل الشيخ في العمل الدعائي، بالداعية السعودي الشهير عادل الكلباني، حيث ظهر بملابس العصور الوسطى في أجواء جليدية، وهو يقول بأداء نجمٍ سينمائي مخضرم: «هبت هبوبها»، في إشارة إلى الفعاليات المنتظرة للموسم. ومما يعمق من إثارة الجدل بظهور الشيخ الكلباني كنجم دعائي، أنها ليست المرة الأولى التي يعتمد عليه فيها تركي آل الشيخ، ففي العام الماضي وفي إطار الدعاية لموسم الرياض أيضا، ظهر الكلباني بملابس ومنظار عسكريين، ضمن مشاهد الإعلان لمنطقة «كومبات فيلد»، إحدى مناطق الفعاليات الرئيسية للموسم الترفيهي في الرياض، ويتاح لزائري هذه المنطقة محاكاة لعبة فيديو افتراضية شهيرة «فيلد كامبات»، بكل تفاصيلها من حروب وقتال.
فالكلباني إذن من أبرز الشخصيات الأساسية على جدول رئيس هيئة الترفيه، وقد شارك عام 2018 في بطولة للعبة «البلوت»، بما يعني أن الداعية جزء من خطة الاهتمام بالترفيه في ظل السياسة الانفتاحية لولي العهد محمد بن سلمان، التي غيرت وجه المجتمع السعودي المحافظ، ليستقبل فعاليات ومناسبات فنية وغنائية لم يألفها، بعيدا عن الضوابط التي أرساها الخط العام للتدين في السعودية حتى وقت قريب.
ويدعم القول إن الكلباني أصبح جزءا من الدعاية التابعة لهيئة تركي آل الشيخ، أنه كتب على صفحته في تويتر مبتهجا بظهوره العام الماضي وهو يخاطب رئيس الهيئة: «ظنك يمدي أروح لهوليوود؟»، فرد عليه تركي آل الشيخ بتغريدة: «صراحة أنا عن نفسي بحسب حسابك يا غالي في أي شيء»، والعبارات غنية عن الحاجة إلى الإيضاح بأن الداعية السعودي أصبح وسيلة إعلامية لرئيس الهيئة. ولسنا في هذا المقام بصدد تناول توجهات الهيئة وآثار فعالياتها على المجتمع السعودي، كما أننا لسنا هنا معنيين بإطلاق الأحكام الشرعية على هذه الفعاليات، وإنما أردت هنا بحث مسألتين اثنتين، أولاهما الإجابة على تساؤل واجب: لماذا يستعين تركي آل الشيخ بالداعية عادل الكلباني؟ والثانية تقييم وضعية الكلباني كرجل من أهل العلوم الشرعية.
اللافت في الإعلان، هو تنوع وظائف وأعمال المشاركين في العمل، فهناك شخصيات حكومية رسمية ممثلة في تركي آل الشيخ نفسه، الذي ظهر في تتمة الإعلان، وهناك شخصيات فنية، وأخرى رياضية، ثم الدينية والتي يمثلها الشيخ الكلباني. تأسيسا على ذلك، فالذي يظهر أن مشروع إنشاء والاهتمام بالهيئة العامة للترفيه، كإحدى مخرجات رؤية 2030، ودخول المملكة عهد السينما والمسارح المختلطة وصالات الديسكو، يلزمه تأييد جماهيري، ومن ثم عمل تركي آل الشيخ في أنشطته الدعائية لفعاليات مواسم الرياض، على حشد رموز من مجالات شتى في المجتمع السعودي، للتعبير عن التوافق الوطني في السير وراء سياسات ولي العهد، وربما يفهم من عبارة الإعلان المتكررة (لا تجون)، أنها رد على المعترضين على هذه الفعاليات. وبالنظر إلى مكانة الدين في نفوس الجماهير العربية، اعتمد تركي آل الشيخ على الداعية السعودي، وحرص على الاستفادة منه في هذا الشأن، حتى يضفي صبغة شرعية للفعاليات، تخلق ارتياحا لدى الجماهير، بأن هذا الاتجاه مؤيَّد من قبل أهل العلم والدعوة.
أما المسألة الثانية المتعلقة بتقييم وضعية الكلباني كداعية أصبح نجما لإعلانات ترفيهية ـ وهو أمر غير مسبوق في حدود علمي – فنقول ابتداءً: إن الداعية لا بد أن يواكب العصر وأساليبه بما يتفق مع الضوابط الدينية لا شك، وتفاعله مع الجماهير واحتكاكه المباشر بهم أمر طيب لا ريب، لكن هل ينطبق هذا الكلام على صنيع الداعية عادل الكلباني؟
لو غيرنا في ملامح الصورة، وأتينا بعالم نووي أو أحد علماء الهندسة الوراثية، وصنعنا منه نجما دعائيا للأنشطة الترفيهية على النحو الذي قام به الكلباني، ترى ما هو رد الفعل المتوقع من الجماهير العريضة والنخب الثقافية وأصحاب الأقلام؟ لا شك في أنه سيكون مثار سخرية واستهجان واستنكار، لأنهم أصحاب تخصصات رفيعة المستوى، وتعريضهم لهذه المواقف يفقد ثقة الشعوب والمؤسسات – بل الدول ـ بهم، وبالمثل الداعية الكلباني من المفترض أنه يمثل العلم والدعوة الإسلامية بمكانتها في قلوب العالم الإسلامي بأسره، وارتضاؤه أن يكون أداة ترويجية لأنشطة ترفيهية فيها ما يخالف آراءه الفقهية ويصطدم بها، أو على الأقل خارجة عن نطاق همته واهتماماته الإصلاحية، يضعف بلا شك مكانة أهل العلم والدعوة في نفوس الجماهير، وهذا واضح جلي لمن رصد تداعيات هذه الأعمال الدعائية التي شارك فيها الكلباني، إذ تلقى الرجل سيلا من الشتائم والنقد والتجريح ليس فقط من قبل الغيورين على الفكرة الإسلامية، بل ظهر كذلك في كلام مناهضيها من باب تعزيز فكرة التعميم لدى الناس، تنفيرا لهم من هذه الطبقة.
وإذا كان الشيخ الكلباني المبتهج بهذه الأعمال الدعائية له تكييفه الفقهي، الذي يرضي ضميره في هذا المسلك، فإننا نعتقد أن الرجل لا يخفى عليه أن القدوات والمتصدرين للشأن العام قد يمنعون مما يباح لغيرهم، وليس معنى مواكبة الداعية للعصر أن يبدد هيبة هذا المقام ووقاره، لأن الناس يأخذون مسائل دينهم عن العلماء والدعاة، وأي عبث في وقار الداعية أو العالم ينفر الناس منه، ويزهدون في بضاعته العلمية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”