كتب: أرنست خوري
أبرز المتضرّرين من اعتزال سعد الحريري السياسة، هو وتياره (المستقبل)، سيكون حزب الله ومعسكره. أكثر مَن يعرف ذلك هو نبيه برّي الذي سعى جاهداً فعلاً إلى ثني الرجل عن قراره. أما الحزب نفسه، فإن فائض القوة عنده يمنعه من إدراك الحقائق، وإن أدركها فإنه لا يعترف بها، فهو الحقيقة الوحيدة. سيكون على الأخير أن يحصد الآن ثمار حربه على خصومه باسم المقاومة والغلبة الطائفية بالنيابة عن إيران ومشاريعها التوسعية.
سيفتقد حزب الله شخصية سياسية مهادِنة تتعايش مع التسويات، بعيدة عن الصدام، ليجد نفسه أمام جمهور طائفةٍ سنيةٍ ستبقى، على المدى المنظور على الأقل، رافضة للنموذج الذي تصدّره إيران أينما حلّت أذرعها. ولأن الحياة تكره الفراغ، سيحاول حزب الله اختراع قيادات وهمية إضافية في صفوف تلك الطائفة يحلفون بحياة حسن نصرالله، وأن يقنع نفسه بأن لها تمثيلاً شعبياً حقيقياً، إلى حين يتطوع كثيرون للتحدث باسم “الشارع السني الحقيقي” بخطاب وممارسة هجوميين ضد حزب الله، وفليستعرض حزب المائة ألف مقاتل حينها قوته في أزقّة بلد الطوائف الـ18.
وتعليق العمل السياسي قد يكون اختراعاً سياسياً شاء القدر أن يكون لبنان ساحته. لا هو اعتزال للشاب (51 عاماً) ولا هو انسحاب نحو المعارضة على طريقة ما فعله والده بين 1998 و2000 بقرار سوري. أكثر من استقالة واستكمال للانسحاب وأقل من اعتزال صريح، وبالطبع أكثر من اعتكاف. والاعتكاف أيضاً بدعة لبنانية ارتبطت تاريخياً بأسماء سياسيين كانوا رموزاً للطائفة السنية التي ينتمي إليها الحريري. أشهر المعتكفين كان رشيد كرامي إثر الاشتباكات بين القوى الأمنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية المسلحة نهاية ستينيات القرن الماضي، ولم ينهِ اعتكافه سوى اتفاق القاهرة الذي رعاه جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب.
سعد الحريري من طينة السياسيين الذين فُرضت السياسة عليهم فرضاً. الابن البكر لرفيق الحريري، بهاء الدين، كان مقرّراً أن يكون هو الوريث السياسي الشرعي. لكن رواية تُحكى في لبنان تفيد بأن التشدّد الديني لرجل الأعمال ــ السياسي، بهاء، أثار خشية لدى رعاة إقليميين ودوليين للحريرية السياسية ولدى الأب حتى، فرسا القرار على نقل القيادة إلى سعد، الذي وجد نفسه مرغماً على تولي الدور السياسي، بينما همومه وهواياته واهتماماته تقع في مكان آخر تماماً، لا علاقة له بالسياسة ولا بالشأن العام.
أمرٌ مماثلٌ حصل مع وليد جنبلاط بعدما اغتال حافظ الأسد والده عام 1977. لكن جنبلاط الابن أغوته “اللعبة”، وصارت ممارسات بعينها تسمّى “الجنبلاطية”، بينما ظل سعد الحريري كارهاً للسياسة، وفاشلاً فيها، أكان وفق تعريفها المكيافيلي الرخيص أو في كونها تدبيراً أمثل للشأن العام وفق برامج ورؤى وكفاءات وأفكار وأحزاب. من هنا، يمكن فهم تبديد الرجل ثروة مالية طائلة، وخسارته دعماً سياسياً دولياً وداخلياً. فشل إلى درجة أنه في عهده، صار اللبنانيون السنة يتصرفون كطائفة تتملكها عقد الأقليات.
لكن ما العمل طالما أن “لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة” مثلما قال في بيان اعتزاله/ انسحابه/ استسلامه؟ هل يُلام الحريري على رفضه معادلة المشاركة في الحكم بشروط حزب الله وإيران أو البقاء مهدّداً في حياته لو قرّر التفرّغ للمعارضة، وهو مغضوبٌ عليه إلى حدّ الاحتجاز ممّن يُفترض أنه عرّابه السياسي الأول؟ هل هو خطأ سعد الحريري أن أميركا وفرنسا ودول الخليج لا تريد مواجهة إيران في لبنان، وكل ما يرغبون بهم هم فدائيون يقفون في وجه حزب السلاح مجرّدين من أي حصانة على حياتهم؟
في صيف 2005، عشية الانتخابات الأولى التي تلت اغتيال رفيق الحريري، سُئل ميشال عون عن سبب عدم ترشيحه ولو شخصاً واحداً من حزبه في بيروت لمنافسة لوائح الحريرية السياسية. أجاب بأنّ “لا أحد يمكنه أن يترشّح في وجه شهيد”، في إشارة ساخرة إلى حملةٍ طاولت في حينها كل من نافس لوائح تيار المستقبل واتهامهم بالمشاركة سياسياً في اغتيال الحريري. في الأمس، كان يمكن لسعد الحريري أن يختصر أسباب اعتزاله السياسة بطرح سؤال وحيد على رافضي قراره: هل يمكن لأحد أن يعمل في السياسة بينما مسدّس المقاومة مصوّب إلى رأسه؟
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”اعتزل الحريري… فليقلق حزب الله