كتب: محمد كريشان
«يزعم الشعبويون أنهم الشعب! وهم يعنون بذلك (..) أنهم فقط من يمثل الشعب، وبذلك ينزعون الشرعية عن كل من يفكر بطريقة مختلفة، سواء تعلّق الأمر بمظاهرات مضادة لهم في الشوارع أو بنواب في البرلمان (..) إنهم بالضرورة معادون للتعدّد. ومن يقف ضدهم وضد ادعائهم أنهم الوحيدون الذين يمثلون الشعب، فهو أوتوماتيكيا، لا ينتمي إلى الشعب الحقيقي».
هكذا وصف يان – فيرنر مولر أستاذ العلوم السياسية في جامعة برنستون الألمانية الشعبويين في كتاب بعنوان «ما الشعبوية؟»جمع فيه محاضراته التي ألقاها عام 2014 عن هذا التيار وأصحابه الذين ظهروا في أكثر من بلد. وفي هذا الكتاب الذي ترجمه إلى العربية رشيد بوطيّب ونشره «منتدى العلاقات العربية والدولية» في الدوحة، يصف الكاتب الشعبوية بأنها «تصور سياسي محدد، يرى أن شعبا خالصا ومنسجما يقف دائما ضد نخب غير أخلاقية، فاسدة وطفيلية، ويرى أن هذه النخب لا تنتمي البتة إلى الشعب».
ويمضي الكاتب في وصفه المدعّم بأمثلة مختلفة عن أحزاب وشخصيات من هذا التيار في أوروبا وأمريكا اللاتينية فيقول إن «الشعبويين يدّعون أنهم من يمثل الشعب الحقيقي، في حين أن بقية ممثلي الشعب يفتقرون إلى الشرعية، وهذا يعني أن الشعبويين لا يدعون أنهم الشعب، بل إن رسالتهم تقول أكثر من ذلك: (نحن فقط من يمثل الشعب)».
وردا على من يشير إلى أن أصحاب هذا التوجه كثيرا ما ينادون باجراء الاستفتاءات وهو ما يتعارض، حسب رأيهم، مع اتهامهم باحتكار صفة الشعب يقول الكاتب إنه «حين يطالب الشعبويون بذلك (أي الاستفتاء) فليس لأنهم يريدون دعم صيرورة نقاش مفتوح لدى الناخبين، بل لأنهم يريدون من المواطنين، فقط، تأكيد ما يرونه إرادة الشعب الحقيقية (تلك الإرادة التي غدرت بها النخب الحاكمة الفاقدة للشرعية والتي لا تبحث إلا عن تحقيق مصلحتها)».
وعن طريقة حكم الشعبويين يرى مولر أنها تتجسد في ثلاثة مظاهر بارزة لسياستهم المعادية للتعدد هي «السيطرة على مجموع مفاصل الدولة، وتفريخ الأتباع الأوفياء عبر استعمال الزبونية على نحو جماهيري، وقمع المجتمع المدني، وإن أمكن الإعلام» مشيرا إلى أن هؤلاء «ينظرون إلى الصحافيين المحترفين بريبة» ويصرّون «على اتهام الأصوات النقدية داخل المجتمع المدني بأنها مسيّرة من الخارج».
ونصل الآن إلى الدساتير والعبث بها فيرى الكاتب أن «الأنظمة الشعبوية تنزع إلى تأبيد سلطتها وشرعنتها، لأن تصوّرهم عن إرادة الشعب الواضحة يتطلّب أن يمثل الشعبويون الشعب. وإذا فهمنا هذا المنطق، فلن نندهش ونحن نرى الشعبويين يحاولون كتابة الدساتير الخاصة بهم». ويشرح الكاتب أكثر العقلية التي تقف وراء مثل هذا التوجه فيقول إن «الدساتير تهدف عادة إلى الحفاظ على التعدد وتنظيم الاختلافات بين الأحزاب والحد منها، لكن الشعبويين الذين هم دائما معادون للتعدّد يريدون تعطيل وظيفة الدستور هذه».
ربما ما كان لي أن أطّلع على كتاب «ما الشعبوية؟» بترجمته العربية الصادرة عام 2017، أو حتى أن أقتنيه أصلا لولا أن أحد الناشرين في معرض الدوحة للكتاب الذي انتهت فعالياته السبت الماضي هو من نصحني به معتبرا أن ما فيه يشرح الكثير مما يجري في تونس. صحيح أن الكتاب لا يتناول إلا أحزابا وشخصيات من أوروبا وأمريكا اللاتينية وحتى روسيا، ولا يشير إلى شخصيات حزبية ورؤساء دول بالاسم إلا من تلك الربوع، ومن بينهم مثلا الفنزيلي الراحل هوغو تشافيز أو الروسي فلاديمير بوتين، لكنك وأنت تورّق صفحاته تشعر وكأنه يتحدث تماما وبالتفصيل عن تونس والرئيس قيس سعيّد بالتحديد والدائرة المحيطة به والمروّجه له في الإعلام والتي تتسم بضحالة صارخة.
عندما يتحدث أحد أنصار الرئيس إلى وسائل الإعلام التونسية عادة ما يُقدّم ويُعرّف على أنه «عضو الحملة التفسيرية للرئيس» الشيء الذي دعا كثيرين خارج تونس إلى التساؤل بحيرة عن دلالة هذه الصفة التي تحيل إلى حقبة أخرى تماما تكاد تظنها تتعلق بنبي وحوارييه أو أصحابه المطالبين بنشر دعوته الجديدة بين الناس وتفسير ما بدا لهم غامضا منها!!
عدا هؤلاء الذين عادة ما يتحدثون بأسلوب يفتقر إلى الحجة والدليل والمنطق السليم مرددين شعارات وكلاما مرسلا لا قيمة له، لا نرى وزراء الحكومة التونسية، ولا حتى رئيستها، يتحدثون إلى الإعلام لشرح سياسات وزاراتهم أو خططها لمعالجة المشاكل والاخلالات العديدة. أنت لا ترى، وقد وضعوا الكمامات، سوى عيونهم الحائرة في اجتماعات مجلس الوزراء يستمعون إلى خطب الرئيس المتشنجة حتى أن بعض هذه العيون تكاد تنطق وتقول: يا إلهي ما الذي جاء بي إلى هنا؟!!
لا أحد يتحدث اليوم في تونس من مسؤولي الدولة إلا الرئيس، وكلما تحدث زاد منسوب التوتر، مع تعدد الجبهات التي يفتحها وآخرها مع الإعلام والقضاء، فضلا عن أخبار عن صراع أجنحة من حوله، خاصة مع استقالة مديرة ديوانه الغامضة.
لكل ذلك، لا تبدو تونس مع سعيّد شعبوية فقط، وبامتياز، بل هي كذلك شعبوية غريبة الأطوار!!
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”
المقالة السابقةاعتزل الحريري… فليقلق حزب الله