كتب: جمال زحالقة
أثارت غارات جماعة أنصار الله الحوثية على دولة الإمارات ردود فعل في المنطقة والعالم، وحملت كلها رسائل الاستنكار والتنديد. إسرائيل أيضا استنكرت مثلها مثل غيرها، وعبرت عن استعدادها للوقوف إلى جانب الإمارات في مواجهة الهجمات الحوثية. وفي الأوضاع التي نشأت بعد استهداف أبو ظبي، وجدت الدولة العبرية نفسها على المحك بشأن مستحقات وتبعات تحالفها مع الإمارات وتعاملها مع احتمالات أن تصلها نار الحوثيين، خاصة وأنها تدعي تزعم نفس المعسكر، الذي يحاربهم في اليمن. بمقابل ذلك ارتفعت أصوات إسرائيلية تدعو إلى استغلال الفرصة لتطوير وتعميق العلاقات الأمنية مع الإمارات من جهة وإلى تأليب الولايات المتحدة لكبح جماح ما يسمى بالتمادي الإيراني المباشر وغير المباشر.
لا يمكن فصل الغارات على الإمارات عن الصراع الدائر في المنطقة بين المعسكر، الذي تقوده إيران والمعسكر، الذي سلم نفسه لإسرائيل. وما كانت إيران لتسمح أو تغض الطرف عن هجمات الحوثيين على أبو ظبي، لولا أنها تريد أن توجه لها رسالة تحذير بشأن علاقاتها بإسرائيل، التي تأخذ منحى تعتبره الجمهورية الإسلامية تهديدا لأمنها القومي.
وهكذا يتبين بشكل جلي أن التحالف مع إسرائيل ليس فيه حماية، بل يجعل الإمارات أكثر عرضة لضربات عسكرية. صحيح أن ما يجري داخل اليمن هو السبب المباشر، وصحيح أيضا أن حسابات الحوثيين هي يمنية صرفة، لكن الأصح أن الغارات على أبو ظبي هي نتاج تلاحم الدافع اليمني مع الاعتبار الإيراني المتعلق بتحالف الإمارات مع إسرائيل.
منذ أن أعلن نتنياهو، في حينه، أن اليمن هو مصدر تهديد، كثفت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية جهودها في تتبع العلاقات بين الحوثيين والحرس الثوري الإيراني، وتوالت أخبار عن تدخل إسرائيلي سري في بعض المواقع اليمنية القريبة من الطرق البحرية في البحر الأحمر وبحر العرب. ورغم كل ما تجمعه من معلومات حول اليمن، لا زالت الأوضاع فيه “صندوقا أسود” بالنسبة لإسرائيل، ما يزيد من قلقها من المجهول اليمني.
التقديرات السائدة في إسرائيل هي أن الحوثيين لن يقدموا في المستقبل المنظور على شن هجوم بالصواريخ وبالطائرات المسيرة على أهداف إسرائيلية. يستند هذا التقييم إلى صورة الوضع القائم، ولكن المسؤولين والمختصين بالتخطيط الاستراتيجي يطرحون السؤال ماذا لو تغيرت الأوضاع؟ ماذا لو حدثت تطورات في اليمن تؤدي إلى اتخاذ قرار حوثي بتوجيه ضربات لإسرائيل؟ وماذا لو أراد الحرس الثوري ذلك واستطاع إقناع الحوثيين؟ وماذا لو حاول هذا الحرس استعمال الأراضي اليمنية لضرب إسرائيل من موقع غير متوقع؟
لا تترك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية هذه الأسئلة بلا جواب، بل شرعت في تحضير الرد عليها وقامت بنشر أنظمة مضادة للصواريخ في أقصى الجنوب في منطقة أم رشرش (إيلات). وقد نشر موقع “فورين بوليسي”، هذا الأسبوع تقريرا عن تداعيات قصف أبو ظبي على إسرائيل، قيّم فيه أن “التهديد الحوثي لإسرائيل هو حقيقي” وأضاف كمعلومة وليس كتحليل أن “مخططي الأمن القومي الإسرائيليين واعون جدا لهذا الأمر. الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أجرت حسابات بأنه من الممكن أن تفضل إيران عدم توجيه ضرباتها من خلال المحور الشمالي المتوقع”.
لا تحسب إسرائيل حساب حروب الحدود فقط، بل تزيد عليها أكثر فأكثر حروب الجبهات البعيدة، ويبدو من تتبع ما ينشره المختصون وما يصرح به المسؤولون السياسيون والأمنيون، أنه جرت إضافة الجبهة اليمنية إلى القائمة. ومن ضمن ما يقلق إسرائيل في هذا الإطار هو مخاطر التحالف الحوثي الإيراني على أمنها:
أولا، هي تخشى أن تقرر قيادة الحوثيين، بتأثير إيراني، توجيه ضربات لمواقع إسرائيلية، خاصة وأن إيلات تبعد 1500 كم عن اليمن، والحوثيين قصفوا بدقة أبو ظبي التي تبعد عنهم 1200 كم، والفارق ليس كبيرا.
ثانيا، يربك إسرائيل غياب المؤشرات المبكرة لشح المعلومات وحتى عدم فهم آلية اتخاذ القرار في صنعاء، لذا هناك ريبة من مفاجأة بلا مقدمات.
ثالثا، تقلق إسرائيل السرعة التي يطور بها الحوثيون قدراتهم في مجالي الصواريخ والطائرات المسيرة، وإذا كان ما يملكونه اليوم محدودا بالمقاييس الإسرائيلية، فهم قد يحصلون من الحرس الثوري على أسلحة متطورة، وهذا ليس بالأمر البعيد ورهن اتفاق بين الطرفين.
رابعا، تشعر إسرائيل بتهديد جدي من تعاون حوثي إيراني لتوجيه ضربات للسفن التجارية وغير التجارية الإسرائيلية في المحيط البحري لليمن، وهي تسعى للتعاون مع الإمارات على الساحة اليمنية في هذا المجال تحديدا.
بالرغم من القلق من مجريات الأمور على الصعيد الخليجي الإيراني اليمني، فإن إسرائيل شديدة الحذر في التعامل مع هذا الملف. ومن مؤشرات هذا الحذر أن القيادة الإسرائيلية انتظرت أكثر من 24 ساعة لتصدر موقفا بعد الغارة الأولى على أبو ظبي، وصدر الموقف بعد مشاورات مطولة أجراها نفتالي بينيت مع المسؤولين الأمنيين ومع وزيري الخارجية والأمن في حكومته. ولعل مصدر هذا الارتباك هو أن إسرائيل تريد أن تبعد نفسها عن مرمى النار.
وكما هي العادة في إسرائيل، طُرح بعد الغارات على أبو ظبي سؤال كيف يمكن الاستفادة مما جرى؟ وكان من أشد الأمور إغراءً الحديث عن بيع أسلحة دفاع جوي للإمارات وفي مقدمتها منظومتا “القبة الحديدية” و “عصا السحر” وأنظمة استكشاف مبكر وغيرها، بما قيمته مليارات الدولارات. المفاوضات بين طواقم إسرائيلية وإماراتية جارية منذ مدة حول هذه الصفقة، وهناك في إسرائيل من يعارضها خشية تسرب معلومات تقنية وأمنية حساسة وخوفا من إضعاف الموقف إزاء قيام الولايات المتحدة ببيع أسلحة متطورة لدول المنطقة، إذ كيف ستطلب إسرائيل من أمريكا عدم بيع أسلحة تقوم هي نفسها ببيع ما يعادلها؟
بعد الغارات زادت الأصوات التي تنادي بتزويد الإمارات بأسلحة دفاعية، وذلك لتثبيت أقدام إسرائيل في الخليج وربط دوله أكثر فأكثر مع إسرائيل، التي تجد فرصتها لتعلب دور “المنقذ” في ظل تزايد المخاطر من جهة وانسحاب الولايات المتحدة من المنطقة من جهة أخرى. بموازاة ذلك تواصل إسرائيل العمل على تأليب الولايات المتحدة للتصعيد ضد إيران، وتتخذ من الهجمات على أبو ظبي ذريعة لجر دول الخليج للتوجه معها بشكل جماعي لطلب التدخل العسكري الأمريكي.
لا تشد إسرائيل دول الخليج إليها حرصا على امنها، بل بالعكس هي تريد أن تورطها أكثر فأكثر في المواجهة مع إيران إلى درجة تكوين حزام أمنى عربي لحماية إسرائيل وليشكل موقعا للتجسس وللعمليات العدوانية الإسرائيلية. ما هي مصلحة الدول العربية في كل ذلك؟ هناك من يتوهم بأن إسرائيل ستحميه. هذا بالطبع وهم قاتل بكل معنى الكلمة، لأن إسرائيل في حالة عدائية مع قوى كثيرة في المنطقة، وكل من يقف معها يتحمل هذا العبء مهما كانت نواياه.
من المنطقي وحتى من المطلوب أن تكون هناك إعادة حسابات بعد الغارات على أبو ظبي.
التشخيص الدقيق هو أنها نتاج لما يحدث في اليمن، ولكن تحالف الإمارات مع إسرائيل سهلها إيرانيا. الاستنتاج الغلط هو الاحتماء بإسرائيل والمزيد من التورط معها، فهذا لن يحمي الإمارات ولن يدعم نظام الحكم فيها، فهي ستزيد على صراعاتها هي وزر صراعات إسرائيل الإقليمية. كما أن المزيد من التحالف مع إسرائيل يعني تلقائيا مزيد من العداء لفلسطين، وهذا بحد ذاته هدف ذاتي لأي نظام عربي.
الاستنتاج الأصح من التطورات الأخيرة هو أن تبتعد الإمارات عن إسرائيل وتبدأ بمصالحة حقيقية مع محيطها وتحديدا مع إيران ومع تركيا وأيضا مع فلسطين، التي هي الطريق الآمن للعودة إلى العروبة.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”