كتب: المهدي مبروك
تتوالى تصريحات خبراء تونسيين منبهةً من خطورة أزمة مالية واقتصادية قد تعصف ببلدهم خلال أشهر، إذا لم تجد السلطة حلا لمعضلة التمويل العمومي، ولتقلص مخزون البلاد من العملة الصعبة بشكل خطير. ويذكر الخبير الاقتصادي معز حديدان أن تونس قد تُقبل على شحٍّ في المواد الغذائية، تحديدا الحبوب التي تستورد ثلثي احتياجاتها منه أو أكثر، علاوة على الأدوية والمواد الطبية. ولا يرى حلا سوى إنجاح المفاوضات التي قد تنطلق قريبا مع صندوق النقد الدولي. وقد قال ممثل رفيع عن الصندوق، زار تونس أخيرا، جيروم فاشيي، إن على السلطات المسارعة باتخاذ إجراءات عميقة جدا، حتى تتجنّب مآلات خطيرة تهدد الاستقرار الاجتماعي في تونس، التي ليست في وارد وضعية الإفلاس على غرار لبنان أو اليونان كما يوضح، ولكن كل الخيارات صعبة وتكلفتها الاجتماعية باهظة ومؤلمة، خصوصا أن الحكومة التي غدت مجرّد هيئة موظفين رفيعين لدى رئاسة الجمهورية لا تملك الجرأة على مصارحة المواطنين، أو إقناعهم بهذه الإجراءات الاجتماعية، على غرار تخفيض الأجور وتفكيك منظومة الدعم وغيرها، فضلا عن توتر العلاقة بين المنظمة النقابية ورئاسة الجمهورية، على الرغم من بعض ما جرى من تلطيفٍ لها أخيرا.
في هذه المناخات الاجتماعية والاقتصادية الحرجة، وعلى غير ما اعتاد التونسيون منذ عقود، صدر عن رئاسة الجمهورية التونسية المرسوم المتعلق بقانون المالية لسنة 2022، عملا بأمر رئاسي متعلق “بتدابير استثنائية”، وخصوصا الفصل الخامس منه، بعد أن جرى عرضه على مجلس الوزراء للمداولة. وغير خافٍ أن هذا القانون يأتي في سياقات سياسية اقتصادية استثنائية حرجة، ناجمة، كما يؤكد جل الخبراء، عن عدة عوامل، لعل أهمها الأزمة المالية العمومية، والتردّد والارتباك إزاء إصلاحات ضرورية يطالب بها صندوق النقد الدولي. ويرى خبراء عديدون أن الخيارات تتقلص تدريجيا أمام تونس لتجنب سيناريوهات سيئة. ولذا ينبغي حسن الاستعداد لدورة جديدة من المفاوضات مع الصندوق، فهو مفتاحٌ مهم في حلحلة الأزمة الهيكلية المركّبة، ولا شيء يلوح في الأفق خارج هذه الفرضية الوحيدة، ما يدعم فرضية “الاستسلام” لشروطه الموجعة، والتي قد تكون لها عواقب وخيمة، ربما قد تعصف بالسلم الاجتماعي للبلاد. لا يرغب الرئيس في تخيل هذا السيناريو، وإنما يرغب في أن يموّل شعبويته من خلال إيجاد حالة من الرخاء، حتى يكسب مزيدا من الأنصار. لذلك وعد بضرب من جوّعوا التونسيين وتلاعبوا بقوتهم. إنه قادم من أجل رخائهم “فالبلاد ثرية ولا تستحق أن تمدّ يدها للغير”. يتلعثم هذا الخطاب تدريجيا، والدولة تجد عُسرا في توفير صرف أجور الموظفين. لقد تم استهلاك القرض الجزائري والقروض الداخلية، التي لجأت إليها الدولة، من البنوك الوطنية، أو بعض المنشآت الوطنية، ومنها مؤسسة البريد التونسي.
لم يثر قانون المالية جدلا سياسيا وفكريا حادّا، على غرار ما ألفنا. ومع ذلك يمكن، حتى لغير المختصّين، أن يقفوا على ملامح بارزة لهذا القانون، ويمكن إيجازها في البعد الاجتماعي الذي حرص المشرّع على إبرازه، على الرغم من صعوباتٍ حادّة تمرّ بها البلاد، على غرار الإعفاء من الأداءات، والتحكّم في أسعار منتجات الفلاحة والصيد البحري، وترشيد منح الامتيازات الجبائية في مادة الأداء على القيمة المضافة للقطع والمواد المستعملة في الفلاحة والصيد البحري. ودعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وخصوصا منها المتضرّرة من جائحة كوفيد 19. كما تم إسناد الشرائح الاجتماعية الوسطى بدعم مالي، من خلال إحداث خطوط تمويل لفائدة أصحاب المشاريع والمهن الصغرى ومؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كما سعى هذا القانون إلى بعث رسائل تفيد بأن الرئيس حريصٌ على تجسيد عدالة جبائية حقيقية.
ومع كل هذه الشعبوية فيه، ظل قانون المالية حاملا توترات داخلية، فيما الصعوبات على أشدّها في ما يتعلق بإيجاد تمويلات مباشرة للميزانية، مع تردّد صندوق النقد الدولي و”اشتراطاته” المؤلمة. وقد قُدّرت ميزانية الدولة التونسية لسنة 2022 بـ47,166 مليار دينار، مقابل مداخيل بقيمة 38,618 مليار دينار، أي بعجز في الميزانية قيمته 8,548 مليارات دينار، فهل يمكن أن تحتفظ الميزانية ببعدها الاجتماعي الشعبوي هذا، أم ستضطر إلى التنازل عنه، لتكون أكثر واقعية، ولو على حساب تلك النيات الطيبة، خصوصا أن رئاسة الجمهورية تظل المسؤولة الأولى والوحيدة عما سيترتب عن هذه التوترات، خصوصا في ظل بوادر أزمة ثقة في مدى قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه مؤجّريها والمستفيدين من خدمات مرفقها العمومي. ومع طمأنته بأن تونس ليست في وارد الإفلاس مطلقا، يبدو أن صندوق النقد الدولي لا يقدّم شروطا تقنية فنية مالية قد تستجيب لها الدولة، بل يقدّم شروطا أخرى، لها صلة بالوضع السياسي تحديدا. لقد صرّح مسؤولوه، مراتٍ، بأن التمويلات مشروطة بمقاربةٍ تشاركيةٍ لا تستثني أحدا، خصوصا أن البلاد تفتقد أي هيئةٍ تشريعيةٍ تسبغ على تلك الاتفاقيات، إن حصلت، شرعية ومشروعية.
المقالة السابقةبعد قصف أبوظبي.. غارات عنيفة على صنعاء وتعز
المقالة التالية إسرائيل..في قفص الجدران