كتب: نواف التميمي
غالباً ما تُنسب مقولة أو حكمة “أبق أصدقاءك قريبين وأعداءك أقرب” للفيلسوف والاستراتيجي العسكري الصيني، صن تزو، وترجع مصادر كثيرة تاريخ العبارة إلى كتابه “فن الحرب”، الذي ضمّنه مبادئ ونصائح عسكرية كتبها قبل 2300 عام. وقد عادت الحياة إلى هذه الحكمة العسكرية، وصارت أكثر شهرة، وهي ترد على لسان أحد شخصيات فيلم “العرّاب 2” العالمي. يحيلنا التأمل في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى هذه الحكمة العسكرية، خصوصا عند التفكير في محطتي اجتياح إسرائيل لبنان في العام 1982، وتوقيع اتفاق أوسلو في 1993. في اجتياح لبنان، أرادت إسرائيل إبعاد العدو، المقاومة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، عن خطوط الاشتباك على الحدود الشمالية. وفي محطة “أوسلو”، استقدمت إسرائيل قيادة المنظمة وعددا كبيرا من المقاتلين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وكأنّ قيادات إسرائيل راجعت استراتيجيتها، لا سيما بعد استعادة منظمة التحرير المبادرة بإشعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وصارت الاستراتيجية الاسرائيلية الجديدة تقضي هذه المرة بـ”جعل العدو أكثر قرباً بدلاً من إبعاده أكثر”.
بعد عشر سنوات، تقريباً، من حصار ياسر عرفات وقواته في بيروت، ثم إجبارهم على المغادرة على متن سفن، وزعتهم بين تونس واليمن والسودان والجزائر، وبلدان أخرى، وقّع الفلسطينيون والإسرائيليون في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) في واشنطن. كان من نتائجه وما لحقه من اتفاقيات وتفاهمات فرعية، عودة عرفات ومعه آلاف الفلسطينيين، عسكريين ومدنيين، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وتأسيس السلطة الفلسطينية وعمودها الفقري أجهزة أمنية بلغ تعداد أفرادها حتى العام 2021 نحو 83 ألفاً، وتستحوذ على نحو 21% من موازنة السلطة الفلسطينية. وكان من نتائج “أوسلو” أيضاً حشر الفلسطينيين، مواطنين وعائدين، داخل سجن يمتد من رفح إلى جنين، شيَّد جدرانه العالية، وزنازينه الكثيرة جنرال غزو بيروت في العام 1982، أرئيل شارون.
وظَّفت إسرائيل التنسيق الأمني لخدمة مصالحها، وانخرطت أجهزة السلطة الأمنية في أنشطة ضد حركات المقاومة والناشطين بالتنسيق مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية. وحرصت السلطة الفلسطينية، منذ تشكيلها وحتى اندلاع انتفاضة الأقصى في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، على الالتزام بالتعاون الأمني مع إسرائيل، والذي تعزّز في عهد الرئيس محمود عباس المعارض بشكل مطلق للعمل المسلح ضد الاحتلال، والمُدافع عن التعاون الأمني مع إسرائيل بوصفه “مصلحة وطنية” فلسطينية.
ويتحدّث رئيس مكتب التنسيق الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الجنرال الأميركي كيث دايتون، الذي تولى مهمة تسليح قوات الأمن الفلسطينية وتدريبها، خلال خطاب ألقاه عام 2009 أمام معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، عن “الفلسطيني الجديد”، أو “الرجال الجدد” الذين أعدّهم، متباهياً بأنّ هؤلاء “الرجال الجدد” في الأجهزة الأمنية الفلسطينية منعوا اندلاع انتفاضةٍ ثالثةٍ، وقال إن بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعقيدة جديدة يهدف إلى “تقليص وجود جيش الدفاع الإسرائيلي” في الضفة الغربية. واعترف دايتون لاحقاً، كما ورد في “وثائق الجزيرة” المسرّبة عام 2010 من مكتب كبير المفاوضين الفلسطينيين سابقاً، الراحل صائب عريقات، بأنّ الأجهزة الأمنية التي درّبها تعتدي على الفلسطينيين وتعذّبهم ولا تحترم قانوناً ولا حقوق إنسان. وتقر القيادات العسكرية الإسرائيلية بأنّ أجهزة السلطة الأمنية تزوّد إسرائيل بمعلومات استخبارية تسهم في تفكيك خلايا المقاومة في الضفة الغربية.
في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2019، أعلن قائد فرقة الضفة الغربية في الجيش الإسرائيلي، الجنرال عيران نيف، أنّ “التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية وثيق، ويساعد في منع العمليات المسلحة ضد الإسرائيليين”، وأضاف: “بفضل هذا التنسيق، تم إحباط أكثر من مائتي عملية فقط خلال 2018، واعتقلنا ثلاثة آلاف فلسطيني بتهمة المشاركة في الهجمات المسلحة، وضبطنا مائة كلغ متفجرات في جنين، وخليتين لحركة حماس من نابلس والخليل أقامتا مختبري متفجرات، وخططتا لتنفيذ عمليات انتحارية”.
وبذلك، يكون الوضع الميداني في الضفة الغربية، وتناوب السلطة الفلسطينية وإسرائيل على اعتقال المقاومين، المؤشّرين الأدق على أنّ العلاقات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بلغت من التعقيد والتشابك ما لا يمكن تفكيكه بقرار من الرئيس الفلسطيني أو غيره، فالتنسيق الأمني وتقديم الخدمات الأمنية لإسرائيل باتا عقيدة للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وليسا مجرّد عقدة يمكن التحلّل منها بقرار صادر عن هذا المستوى الفلسطيني أو ذاك.
وقبل ذلك، إذا كان قبول إسرائيل بعودة ياسر عرفات وقوات منظمة التحرير إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، بدلاً من رميهم بعيداً، يعيدنا إلى مقولة الاستراتيجي الصيني، صن تزو، فإنّ قبول إسرائيل بتأسيس أجهزة أمنية فلسطينية يُعهد لها حفظ أمن إسرائيل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وضبطهم يعيدنا إلى تجربة عالم النفس الأميركي، فيليب جي زِمباردو. أجرى، في 1971 تجربة “سجن ستانفورد”، بمشاركة 24 طالباً جامعياً قُسِّموا إلى سجناء وحرّاس في سجن شُيّد لأغراض التجربة. هدفت الدراسة إلى قياس تأثير المتغيرات الظرفية في السلوك البشري. وقد جرى اختيار بعض الطلاب عشوائياً، ليكونوا سجناء، بل مرّوا بـ”اعتقالات” وهمية في منازلهم على يد الشرطة المحلية قبل إحضارهم إلى السجن الوهمي في حرم جامعة ستانفورد، وجرى اختيار المشاركين الآخرين ليكونوا حرّاس السجن، وكان على السجناء البقاء 24 ساعةً يومياً في السجن خلال الدراسة، في حين كُلِّف الحرّاس بالعمل على ثلاث فرق بمناوبات كل ثماني ساعات، ويُسمَح للحرّاس بعد كلّ مناوبة بالعودة إلى منازلهم حتى موعد مناوبتهم التالية. تمكّن الباحثون من مراقبة سلوك السجناء والحرّاس باستخدام كاميرات وميكروفونات مخفية. وتولى الأستاذ المشرف على التجربة، زمباردو، دور المشرف على السجن. ضمن السجن ثلاث زنزانات، احتوت كل منها على ثلاثة سجناء وثلاث أسرّة، استُعمِلت الغرف الأخرى مقابل الزنزانات لحرّاس السجناء، وخُصِّصت مساحة صغيرة لغرفة الحبس الانفرادي، وغرفة صغيرة أخرى مثلت ساحة السجن… توقفت التجربة بعد ستة أيام، علماً أنّه خُطط لها أن تستمر أسبوعين، لأنّ الأحداث في السجن اتخذت منعطفاً غير متوقع، إذ بدأ الطلاب الحرّاس التصرف بأساليب عنيفة وقاسية ومسيئة تجاه الطلاب السجناء، وأجبروهم على القيام بأعمال مُذلّة ومهينة، وقد أُصيب بعضهم بالاكتئاب والقلق الحاد، أو بنوبات عصبية من البكاء. بعد رؤية ما يجري في السجن، أوقف زمباردو الدراسة.
كشفت تجربة سجن ستانفورد كيفية تحكم المواقف والظروف بتشكيل تصرّفات الأفراد وجعلهم يتصرّفون بطرق غير متوقعة. حتى زمباردو نفسه وجد أنّ سلوكه قد تغير، عندما تولّى دور مدير السجن. وحالما تعرّف على دوره، وجد أنّه يواجه صعوبةً في التعرّف على الانتهاكات في سجنه: “لقد فقدت إحساسي بالتعاطف” يشرح ذلك في مقابلة صحافية. وكتب زمباردو في كتابه “تأثير الشيطان – كيف يتحول الأخيار إلى أشرار” إنه “لم يستطع مقاومة إغراءات الموقف في الانصياع للسلطة والسيطرة مع الحفاظ على قدر من النزاهة والأخلاق إلا فئةً قليلةً من الناس، لكنني حقاً لم أكن من هذه الفئة النبيلة”. وفقًا لزمباردو وزملائه، تؤكّد تجربة سجن ستانفورد أهمية الدور الذي تؤدّيه الظروف والمواقف في تغيير السلوك البشري، فقد وضعوا الحرّاس موضع سلطة فتصرّفوا بطريقةٍ قد تختلف عن تصرّفاتهم في حياتهم اليومية أو في مواقف أخرى، ولأنّ السجناء وضِعوا في موقفٍ لا يملكون أي سيطرةٍ فيه، أصيبوا بالاكتئاب والبلادة.
قد نفهم من الطريقة الوحشية المروّعة التي قُتل بها الناشط الفلسطيني، نزار بنات، في يونيو/ حزيران 2021، وما سبق تلك الحادثة وتلاها من قمع “رجال دايتون الجدد” للاحتجاجات السلمية بقوة مفرطة، واستهداف صحافيين وناشطين في المجتمع المدني ومحامين باعتقالات تعسفية وتعذيب، الفصل الثاني من استراتيجية إسرائيل القائمة على “جعل العدو أقرب” وإخضاعه لواقع موضوعي آخر يقلب سلوكه القديم، وينتج “رجالاً جدداً”، حرّاساً، يمارسون في سجن أوسلو الذي صنعته إسرائيل، كل أصناف تعذيب المعارضين السياسيين وقتلهم، واعتقال المنتقدين اعتقالاً تعسّفياً واحتجازهم في ظروف غير إنسانية ارتفع فيها منسوب الرقابة، وتدنّت مستويات التسامح والتعدّدية.
في سجن أوسلو، تحول فدائيو الأمس، الحالمون بوطن ديمقراطي تسودُه العدالة وتعلوه القيم الإنسانية الى رجالٍ جدد يحرسون من إسرائيل. والوضع ليس أفضل في الجناح الآخر من السجن، قطاع غزة، حيث مارس السجّانون الجدد أصنافاً من القتل والتعذيب السادي ضد كلّ من خالفهم أو خرج عن الصف. في سجن أوسلو بجناحيه، اصطفّ سواد الشعب في طوابير المساجين، عاجزين عن الحركة والمقاومة، وأصيب أكثرهم بالاكتئاب والإحباط، واجتاحتهم رغبة هائجة لمغادرة السجن الكبير هرباً من ظلم ذوي القربى.
خلاصة القول، لم يكن الإسرائيلي ضعيفاً أو غبياً عندما سمح لأعدائه بالعودة إلى أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، والاقتراب منه أكثر، بل كان واعياً لما يقوله الاستراتيجي الصيني، صن تزو، في كتابه “فن الحرب” إنّ “الحرب لا تُكسب بالقوة بل بالخداع والتخطيط وعدم الاستعجال”. ولم يكن الإسرائيلي ساذجاً عندما سلّم الفلسطيني عصا، وجعل منه حارساً على المساجين في سجن دولة فلسطين المصطنعة، فقد كان مطّلعاً على تجربة زمباردو في سجن ستانفورد، وتعلّم منها كيفية بناء سجن فلسطيني كبير، يحرُسه رجالٌ جدد، مدججون بعقيدة دايتون ومضرّجون بأوهام السلطة.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”