للمفكر الدكتور / عبد المجيد الصغير كتابا مهم بعنوان “فقه وشرعية الاختلاف في الإسلام”
يقع الكتاب في ثلاثة فصول ويتناول إشكالية الاختلاف بين الطوائف والجماعات المختلفة في الإسلام، ويناقش أسباب ومسببات هذا الاختلاف وطرق تعامل المخالفين مع بعضهم البعض، ويعزو الكاتب هذا الاختلاف إلى الكثير من الأسباب التي لا يسع المقام لذكرها.
لكن من أهم الأسباب التي أدت إلى صعوبة تقديم نقد مفاهيمي منضبط للأفكار والطوائف التي تشكلت في العصور الأولى من الإسلام هي النزعة الإقصائية للفرق في سياق الرد عليها أو التأريخ لها .
توقفت وانا اقرأ الكتاب على ملاحظة موجوده أمام أعين القراء والباحثين في التاريخ الإسلامي، تحديدا الحالة الاجتماعية التي تكونت في هذا التاريخ وهي أن العنصرية بمعناها الموجود اليوم لم تكن يوما أحد الأسباب الإقصائية وإنما كان الإقصاء مبنيا على الأفكار، والاختلافات كانت اختلافات فكرية لا شأن فيها للعرق أو للون البشرة أو للقبيلة .
وكأن العنصرية لم تكن موجودة آن ذاك بالرغم من أن الفارق الزمني الذي كان يفصل تلك الفترة عن الجاهلية ( العنصرية في عصرها الذهبي ) أقل بكثير من الفترة التي تفصلها عن زماننا المعاصر !!
أو يمكن القول أن العنصرية تجاوزت في تلك الحقبة الأسباب التقليدية لها وتحورت إلى عنصرية تتبع الطائفة أو الجماعة أو الفكرة .
لو قرأنا الردود الشهيرة في تراثنا الإسلامي بين المعتزلة وأهل الحديث مثلا لوجدنا أنها تصل حد السب والتشبيه ببعض الحيوانات ولكن بالرغم من ذلك فهي مؤطرة باطار الاختلاف المنهجي أو الفكري أو العقدي ولا نجد فيها إشارة للذم بأسلوب عنصري أو محاولة للنيل من الخصوم باستخدام مبررات عنصرية .
بل إن العلماء المتفوقين في التاريخ الإسلامي جُلّهم كانوا من الموالي أي أصحاب الأصول الغير عربية ومع ذلك من النادر أن نجد إشارة من خصومهم الفكريين ( وهم كثر ) على أنهم غير عرب أو استخدام إشارات عنصرية من شأنها أن تقلل من قيمتهم لدى الجمهور، أكثر من ذلك نجد أن هؤلاء الموالي قد برعوا في الكثير من العلوم وتم الاحتفاء بهم في العالم العربي وانسجموا فيه لحد كبير، للحد الذي يكون من الصعب عليهم أن يبدعوا في ظل مجتمع عنصري، وذلك في حال سلمنا جدلا أن النقاشات والردود الفكرية إنما تدور بين العلماء وبناءً عليه تكون شخصية العالم (بالضرورة) غير عنصرية، النقطة الثانية أن هؤلاء العلماء ربما حرصوا على عدم استخدام أي لغة عنصرية في ردودهم خوفا من إسقاط الجمهور لهم، في كلا الحالتين نستطيع أن نستنتج أن المجتمع بصفته العامة لم يكن عنصريا .
يعرف معظم علماء الأنثروبولوجيا ( المختصين بدراسة علم الإنسان ) بكل أنواعه وأقسامه، العنصرية على أنها “كل الأفكار والمُعتقدات والقناعات والتَّصرفات التي ترفع من قيمة مجموعة معينة أو فئة معينة على حساب الفئات الأخرى، بناء على أمور مورّثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم، وتعتمد في بعض الأحيان على لون البشرة، أو الثقافة، أو مكان السكن، أو العادات، أو اللغة”
بناءً على هذا التعريف فإننا نستطيع أن نبرئ ( معظم ) الأجيال الأولى من الإسلام من تهمة العنصرية، في حين أنها ظاهرة موجوده ومؤثرة حاليا ليس فقط بين العوام وإنما حتى بين طبقات العلماء والمفكرين والمثقفين، أحد هذه الأسباب هي بعدنا عن الموروث النبوي الذي كان من أبرز ما جاء به نبذ العنصرية والانقلاب على منظومة القيم والمبادئ الجاهلية والتي تشكلت أساسا على فكرة عنصرية .
والكارثة الحقيقية أن العنصرية اليوم بدأت في أخذ أشكال وقوالب مختلفة تداخلت معها التكنولوجيا والعولمة وحتى الشهادة الدراسية !!
فمن ضمن أشكال العنصرية اليوم هو الإحساس بالتفوق لا لدواعي مُوَّرثة كانتماء لبلد معين أو لقبيلة معينة أو بسبب لون البشرة وإنما بسبب التخصص الجامعي !!
وهذه الإشكالية بالذات لها علاقة بالعقلية العربية التي بقيت للأسف حبيسة الألقاب كمبرر للتعظيم والتفخيم دون النظر لهذه الألقاب كتوصيف لعمل أو مهمة وظيفية تؤدي قيمة واقعية ملموسة .
ومواقع التواصل عامرة بأشكال جديدة من العنصرية لا أدلَّ منها حُمّى المتابعين والإحساس الضمني بالتفوق على الآخر الذي يمتلك عدد متابعين أقل، والإشكالية الحقيقية أنها تحولت إلى نقطة تفاضل على الآخر وليس فقط إحساس بالتفوق أو الافتخار الضمني، بل تعدت إلى اطلاق الأحكام والتصنيف .
شهدنا في الملاعب الأوروبية ملاحظة جديرة بالانتباه والتحليل وهي لحظة الانحناء والانثناء على الركبة قبل المباراة في رمزية لما حدث للمواطن الأمريكي جورج فلويد، وقد تحولت هذه الحركة إلى طقس متكرر وروتيني قبل المباريات أي أنها تحوّلت بدورها إلى سلوك جمعي مفرّغ من دلالته الرمزية، وقد اتضح ذلك في احدى المباريات حيث تلفظ احد اللاعبين بألفاظ عنصرية دنيئة على لاعب آخر وقد كان قبل دقائق يحاول إثبات انه غير عنصري عن طريق المشاركة في طقس جمعي سيشعر بالإقصاء اذا لم يشترك فيه !!
لقد جاء الإسلام بمخطط دقيق قائم على تغيير التركيبة الفكرية والنفسية للأفراد وبالتالي ظهور أول مجتمع إنساني (ربما في التاريخ) يخلو تماما من العنصرية، نتحدث عن عصر صدر الإسلام على الأقل، وقد ظهرت أولى بوادر هذا المشروع الإلهي في عملية اختيار النبي عليه الصلاة والسلام من أشرف وأرقى القبائل والبيوت العربية ( بحسب تصنيف العرب ) ثم يأت هذا النبي ليحارب أقاربه الغير مسلمين مع أبناء قبائل أخرى ( أقل درجة ) لكنهم مسلمون ويتحدث ليقر ويقرر كل اللهجات العربية ويجلس في المكان فاذا دخل الغريب لا يعرف أين هو النبي بين الجلوس !!
وصعد عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج حتى بلغ مكانة لم يبلغها ولم يصل إليها أي مخلوق ثم عاد ليمشي بين الناس ويحلب شاته ويخيط نعله !!
ثم تأتِ دور النصوص المقدسة التي تذم العنصرية بأبشع الصفات الممكنة بالإضافة إلى التأكيد في أكثر من موضع في القرآن والسنة على تساوي الخلق وانحداره من أصل واحد ومن مكوِّن واحد هو التراب الذي تدوسه الأقدام وكأنك حين تسير تدوس نفسك وتدوس ذاتك فلا تتكبر ولا تغتر فهذا أصلك تحت نعليك!!
ثم طريقة ممارسة الشعائر الدينية مثل الصلاة والحج التي يكون فيها التساوي بين الناس في أبهى حلة وأجلى صوره .
على مر التاريخ عرف الإنسان العنصرية لأنها نابعة في الأساس من حاجة نفسية ملحه تدعوه للتفوق على أخيه الإنسان وذلك عبر اختراع وسائل ومبررات مكتسبة أو مُوَّروثه، والحق أننا لم نتقدم كثيرا ولم نتغير كثيرا منذ حقبة استعباد البشر بناءً على لون بشرتهم، وذلك بالرغم من هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير والمخيف كذلك إلا أننا لا نزال متخلفون حضاريا .
وهذه الآفة لا تزال تسري داخلنا، في مجتمعاتنا وبين بيوتنا ولن يكون هناك نور يرشدنا الطريق وسط هذه العتمة والتخلف الذي نعيشه كعرب (على كل المستويات) إلا باستبدال الموروث العربي بالموروث الديني واستبدال القبيلة المتعددة بالقِبلة الواحدة.