منذ القدم حاول المفكرون والفلاسفة إنتاج نظريات لقراءة وفهم التاريخ وبناءً عليه وضع محددات وعوامل ثابته تكون هي المتحكم الرئيسي في سيرورة التاريخ والأحداث، وتهدف هذه المحاولات الحثيثة إلى النظر للتاريخ بطريقة مختلفة ودراسة التاريخ بصورة مختلفة، وإذا ما استطعنا إيجاد نظرية واحده متماسكة نستطيع من خلالها فهم التاريخ وتحديد المحددات والعوامل الرئيسية فيه، نستطيع إذا أن نستشرف المستقبل أو على الأقل نتعامل معه بطريقة أفضل.
بلغ عدد النظريات المعتبرة التي حاول واضعوها فهم التاريخ إلى تسعة نظريات، من ضمنها النظرية السياسية التي ترى بأن المتحكم الرئيس في حركة وتطور التاريخ هي السياسية، وكذلك النظرية الاقتصادية الماركسية التي ترى أن التاريخ ما هو إلا تأثير الاقتصاد في حقبة معينة، ومن ضمنها النظرة الفلسفية التي تحاول أن تجسد التاريخ على هيئة بشرية، بمعنى التاريخ والحضارة تشبه في نموها وتطورها النمو والتطور الجسماني والعقلي للإنسان، فيبدأ تاريخ حقبة معينه كما يبدأ الإنسان حياته جنين ثم طفل ثم مراهق ثم شاب وهكذا حتى يصل إلى سن الكهولة والموت والاندثار، وحتى يتم استكمال الدورة فان حضارة أخرى وتاريخ جديد يبدأ على رفات الحضارة السابقة أو التاريخ السابق وهكذا .
هذه النظرية الأخيرة هي ما أريد التركيز عليه هنا ذلك أن عددا كبيرا ممن قرأ لابن خلدون وكتب عنه يقول إن ابن خلدون يتبع لهذه النظرية بل هو عرَّابها ومؤسسها وبناءً عليه تكون
هذه النظرية لدى الكثيرين مقترنة دائما باسم ابن خلدون وهي مغالطة جسيمة وفخ كبير قد وقعوا به، والسبب في تكوّن هذا الاعتقاد لديهم هو في نظري يعود لأمرين: –
الأول هي الطريقة التي نظروا من خلالها إلى ابن خلدون، فقد نظروا إليه باعتباره عالم اجتماع والمؤسس الفعلي لهذا العلم الذي بات يمثل أهمية قصوى في وقتنا الراهن، فنظروا الى الإرث الخلدوني من نافذة علم الاجتماع وهنا يظهر اللبس لأنهم في إطار الاحتفاء به تناولوا فكر ابن خلدون باعتباره مؤسس علم الاجتماع وأثناء محاولتهم لإثبات ذلك وقعوا في فخ فكري وتاريخي على حد سواء لأن علم الاجتماع لم تكن له أهمية في زمن ابن خلدون بل لم يكن ملاحظا حتى، فله شواهده وآثاره المحسوسة والمشاهدة لكن لم يتفطن أحد للتأليف والكتابة فيه ومحاولة إحالة هذه الشواهد الى علم يمكن أن يقاس ويدرس، ولأن علم الاجتماع له أهمية كبيرة اليوم حاول هؤلاء الكتاب أن يركزوا على ابن خلدون بوصفه “عالم اجتماع” في حين أن ابن خلدون هو في حقيقة الأمر مؤرخ وفيلسوف للتاريخ كان جلَّ اهتمامه بهذا العلم “علم التاريخ والتأريخ” أي دراسة التاريخ وتسجيله، في حين أن البذور التي غرسها والتي أثمرت عن علم الاجتماع، ماهي إلا أفكار حاول استخدامها لدراسة ولفهم التاريخ، أي أن الأدوات التي اخترعها ابن خلدون والتي عرفت لاحقا باسم “علم الاجتماع” هي في حقيقة الأمر أدوات ووسائل طوَّرها ابن خلدون حتى يتسنى له دراسة وفهم التاريخ .
أما الأمر الثاني الذي حمل بعض المثقفين بالقول إن النظرية الفلسفية -سبق الإشارة إليها- في فهم التاريخ هي نظرية ابن خلدون أو أن ابن خلدون يدور في فلكها، قراءتهم لنظرية نشوء الدول وتطورها ثم انحسارها وانحدارها، فارتبط في أذهانهم كلام ابن خلدون عن الدول بالنظرية التاريخية التي وضعها ابن خلدون أو تبنَّاها لدارسة وفهم التاريخ.
هذان الأمران -في اعتقادي- هما السببان الرئيسيان اللذان جعلا النص الخلدوني يساء فهمه لدى الكثير من القرَّاء المبتدئين وحتى من قبل بعض المثقفين.
إن النظرية الخلدونية في تاريخ هي نظرية واسعة وشاملة للغاية فقد شملت مراعاة للبعد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وحتى مراعاة للبعد الفني والعلمي والمستوى الذي وصلت إليه العلوم والفنون والصناعة والعمارة في تلك الحقبة المراد دراسة التاريخ فيها أو حتى التأريخ لها، وهذا ما نجده واضحا في المؤلف الموسوعي لابن خلدون “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر” نلاحظ فيه كيف راعى ابن خلدون “المؤرخ” كل العوامل التي سبق الإشارة إليها، والتأريخ لا يكون بطبيعة الحال إلا من خلال دراسة التاريخ بشكل وبأسلوب دقيق ومفصل وهو الأمر الذي نجح فيه ابن خلدون بصورة وبشكل متميز وفريد جعلته يتفوق على كل من سبقوه في هذا المجال شرقا وغربا وجعلت كل من جاء بعده خلال أربعة قرون عالة عليه وجعلت من كتاباته وأسلوبه العلمي والمنهجي مرجعا يستند إليه، بل إن كثير من الباحثين فصَّل في النص التاريخي الخلدوني معتبرين إياه تأريخ للحضارة وأن ابن خلدون أول من كتب تاريخ الحضارة، ذلك أنه لم يكتفي في عملية التأريخ بسرد الوقائع الاجتماعية (من خلال الأدوات التي طوَّرها لدراسة علم الاجتماع) والعسكرية والسياسية والاعتقادية وتمحيص هذه الوقائع من خلال أدوات تاريخيه خاصة بل انتقل إلى عملية التحليل الحضاري ومحاولة فهم الأحداث التاريخية من خلال الإسناد إلى عوامل مختلفة كالأثر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والبيئي الجغرافي .
لقد طوَّر ابن خلدون من نظرة الإنسانية للتاريخ وجعلنا ننظر للتاريخ بصورة وبشكل مختلف وساهم كذلك حتى في تطوير هذه النظرة من خلال تأريخ الحضارة بأسلوب شمولي متكامل وديناميكية حية تحمل في داخلها أساليب وأدوات تطويرها وهو الأمر الذي ساهم وبشكل كبير في النهضة الأوروبية والرؤية الأوروبية للتاريخ وذلك على غير الاعتقاد الذي يروج له بعض المثقفين الغرب وحتى من بعض العرب المعاصرين والذين يحاولون تصوير نظرية هيغل للتاريخ بأنها الأرضية التي يقف عليها الباحث والمفكر الغربي.
ربما من غير الممكن أن يتوصل الفكر البشري في يوم ما الى نظرة شاملة ونظرية واحده متماسكة من شأنها تفسير التاريخ ورصد عوامل تقلباته بدقه، لكن يمكن القول بأن النظرية الخلدونية ساهمت وبشكل كبير في الطريق الى هذه الغاية أو على الأقل في توجيهنا إليها.