كتبت: سعدية مفرح
لم تكن مجرّد بطولة كروية وحسب، بل كانت فرصة عظيمة لإعادة لتأكيد المؤكّد في ظل تزعزع قناعات كثيرين تجاه الأمة وفكرتها وحيويتها وقيمتها في الوجدان الجمعي العربي كله، فبطولة كأس العرب، في نسختها الأولى تحت مظلة “فيفا”، والتي استضافتها دولة قطر، أخيرا، تعدّت كونها بطولة كروية تتنافس فيها الفرق المشاركة على الفوز بالكأس، لتصبح بيئة حاضنةً لفكرة طالما اعتقد كثيرون أنها تلاشت، لأنها غير قابلة للبقاء في ظل الصراعات البينية التي تعصف بأقطار الأمة العربية والنزاعات الإقليمية التي ألقت بظلالها المعتمة على الجميع تقريبا.
في البطولة، وفي أثناء كل مباراة من المباريات، كان علم فلسطين العامل المشترك بين الجماهير المتنافسة، وكانت الروح السائدة هي روح الجسد الواحد، ليس على مدرّجات التشجيع وحسب، بل في الملاعب وخارجها أيضا.
هل هو مجرّد كلام شاعري فرضته علينا شاعرية اللقطات المصوّرة من البطولة على وقع صيحات التشجيع والموسيقى التصويرية المصاحبة؟ ربما .. ولكنه أيضا كلام حقيقي، يعبر عن واقعٍ لا يموت، وإن توارى قليلا أو كثيرا وفق الظروف التي تحيط بنا ونحيط بها. ولذلك سنمعن في هذا الكلام الشاعري، كلما رأينا الخريطة العربية موحّدة على الورق في أي مناسبةِ من المناسبات، لتعلن أنها خريطة وطن واحد. الوطن الذي فرّقته السياسات، ومزّقته الصراعات، وقسّمته الحروب والنزاعات. ولكن كرةً صغيرةً جميلةً مليئة بالحب والشغفْ أعادت توحيده، وهي تتدحرج بين الأقدام نحو تحقيق الهدف، ولو أياما معدودات، أثبتت فيها الجماهير العربية أنها عصية على التفرقة والتقسيم، وأكبر من كل صراع وفوق كل عداء، وأن كلمتها إذ تبحر في بحر الظلمات أعلى من كل شراع. وأن التاريخ الذي يجمعها أعمقُ من حدود الخرائط وخطوط الجغرافيا طولا وعرضا.
وأننا كنا هنا .. / على المدرجات وفي الملاعب/ نستعيد مجداً/ ونحقق حلماً/ ونكون مرة أخرى، شعبا واحدا بأحلام كبرى. نجتمع حول كرة قدم لنفاجئ العالم أننا أمة واحدة ولو كره الكارهون. بلغة واحدة ولو تآمر الحاقدون، وبمستقبل واحد ولو خطط ضده الواهمون.
اختلطت دماؤنا في حروب التحرير/ وتعالت ضحكاتنا في كل فرح صغير أو كبير/ فكانت كل مباراةٍ مرآة لما في النفوس من رؤى واسعة الأرجاء:
تقترب الكرة من الهدف فتتعالى الصيحات وترتفع الأعلام/ وعندما تهتز الشباك، تختلج الصدورُ بالطموحات والأحلام! نبتسم فتسيل الدموع، ونبكي فترتجف، بين الحنايا الضلوع.
كم فرّقتنا السياسة/ وكم أبعَدنا عن بعضنا بعضا السياسييون/ لكننا على عهد العروبة باقون/ شعب واحد وأمة واحد/ ولو كره الكارهون.
وهنا استعدنا الحلم/ نعم .. هنا/ اهتزت القلوب قبل اهتزاز الشباك/ وتشابكت الأيدي قبل تشابك الأقدام/ هنا أعدنا اكتشاف الوطن العربي الكبير/ فهل أنهت كأس العرب كل صراعاتنا وحروبنا وخصوماتنا؟
لعلها نجحت مؤقتا في تلك المهمة، ولكن نجاحها الكبير أنها أثبتت أن حروبنا مفتعلة وصراعاتنا مزيفة وخصوماتنا مؤقتة، وأن نزاعات “الهويات القاتلة” بين الشعوب ليست حقيقية، وأنها من صنع الأعداء الذين جعلونا السلاح والوقود والضحية أيضا. وها هي “كأس العرب” التي رفعتها الأمة كلها بغض النظر عن الفائز، تفضح هذا كله، ولتؤكّد لنا من جديد أن الدماء التي تسيل، هنا وهناك، في سبيل شعاراتٍ، صنعها السياسيون وحدهم، إنما تسيل مجاناً، وتذهب هدراً، ولا يستفيد منها إلا أعداء الأمة والإنسان.
لذلك، علينا أن نثق بصيحات الجماهير العربية في المدرّجات، أو وراء الشاشات في مثل هذه المباريات، أو غيرها من المناسبات، لأنها نبض الأمة، والذي سيعلو بنا نحو القمة.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”