كتب: مصطفى البرغوثي
لم تختفِ “صفقة القرن” باختفاء دونالد ترامب من البيت الأبيض، بل تواصل حضورها وتطبيقها من حكومات إسرائيل المتعاقبة، إذ بدأ نتنياهو تطبيقها، وواصلت حكومة نفتالي بينت ولبيد وغانتس تنفيذ بنودها. ولا غرابة في ذلك، فمن كتب “صفقة القرن” وأعدّها وقدمها لترامب، كي يغلفها بغلاف أميركي، لم يكن سوى نتنياهو نفسه، مع أركان اليمين الإسرائيلي والحركة الصهيونية.
وما يجري على أرض الواقع اليوم، على الرغم من استلام بايدن دفة الرئاسة الأميركية، أسوأ مما ورد في “صفقة القرن”، إذ تتمحور السياسة الإسرائيلية في ثلاثة اتجاهات:
أولاً، محاولة تصفية عناصر القضية الفلسطينية، عبر توسّع استيطاني غير مسبوق، ورفض قيام دولة فلسطينية، وعمليات ضم تدريجي لمعظم أراضي الضفة الغربية، وهجوم على حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتوسّع في تعميق منظومة الأبارتهايد العنصرية التي تشمل كل الفلسطينيين، بمن فيهم الصامدون في أراضي 1948، على الرغم من أنّهم يحملون الجنسية الإسرائيلية.
ثانياً، تصفية كلّ فرصة للعملية السياسية، واستبدال المفاوضات التي ما زال بعض المسؤولين الفلسطينيين يعيشون سرابها، بنظرية “تقليص الصراع”، والتحسين المزعوم للاقتصاد بديلا للحلول السياسية. ومن سوء حظ المتمسّكين باتفاق أوسلو ونهج التفاوض أنّ الإدارة الأميركية الديمقراطية تبنّت النظريات الإسرائيلية بالكامل، ولا يحمل مبعوثوها، من مساعدي وزير الخارجية بلينكن إلى مستشار الأمن القومي سوليفان، سوى وعود بمساعداتٍ اقتصاديةٍ هزيلة، بما في ذلك ما يخصّص لوكالة الغوث الدولية (318 مليون دولار) ولأجهزة الأمن الفلسطينية (40 مليون دولار) ولمشاريع وكالة التنمية الأميركية (USAID) (150 مليون دولار)، التي يكاد نصفها يعود إلى المانحين الأميركيين ويخصص الباقي لمشاريع تطبيعية، أو ضعيفة الجدوى للاقتصاد الفلسطيني، ومجموع هذه المساعدات أقلّ مما استولت عليه إسرائيل، بالقرصنة، من عائدات الضرائب الفلسطينية، وهي حوالي نصف مليار دولار.
وفي الوقت نفسه، خضعت الإدارة الأميركية للضغوط الإسرائيلية، وتراجعت عن إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، كما تخضع لإرادة اللوبي الصهيوني في واشنطن بمنع فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، بل وصل الأمر، كما ذكرت وسائل الإعلام، إلى مطالبة مسؤولَين فلسطينيين بعدم السفر إلى الولايات المتحدة خشية اعتقالهما بتهمة “الإرهاب”، بالعلاقة مع الضغوط الموجهة لمنع السلطة من دفع رواتب الأسرى ومساعدات عائلات الشهداء الذين قتلهم جيش الاحتلال.
ثالثاً، الاستمرار في تطبيق ما ورد في “صفقة القرن” من تطبيع مع بعض الدول العربية، والذي تجاوز موضوع إقامة علاقات دبلوماسية إلى إنشاء أحلافٍ أمنية، ومراكز للصناعات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، وذلك كله يجري في إطار تهميش القضية الفلسطينية، وتوجيه طعنة إلى نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية. ولا يمكن مواجهة هذه المخاطر بدفن الرأس في الرمال، وتجاهل وجودها، ولن يمكن مواجهتها من دون استراتيجية وطنية لتغيير ميزان القوى لمصلحة الشعب الفلسطيني.
لكنّ الوصول إلى الاستراتيجية المطلوبة يتعارض مع الاستمرار في المراهنة على “حل وسط” مع إسرائيل والحركة الصهيونية، واستمرار التمسّك باتفاق أوسلو، أو التعلق بأوهام عملية سياسية ومفاوضات لن تحدُث، أو المراهنة على ما يُدعى المؤتمر الدولي، والذي عقد سابقاً وفشل، وسيفشل بالتأكيد ما دام حكّام إسرائيل يرفضون حضوره، كما حدث في مؤتمر باريس قبل سنوات. ولا يمكن بناء استراتيجية فعالة، إن استمر الإصرار على استخدام أدوات الماضي وأساليبه التي فشلت حتى في ظروف أفضل مما هي عليه الأحوال اليوم.
ولا يمكن بناء استراتيجية فلسطينية فعالة، إن استمر إغلاق الباب أمام إنهاء حالة الانقسام البغيضة، أو اشتراط إنهائها بموافقة القوى الفلسطينية على الالتزام بالاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية وأهمها اتفاق أوسلو، في الوقت الذي يعترف فيه من وقّعوا ذلك الاتفاق بفشله والتنكّر الإسرائيلي الكامل له. وما من شك في أنّ النضال الفلسطيني يوحد الفلسطينيين، بينما يعمّق الصراع على السلطة، الواقعة تحت الاحتلال، انقسامهم.
تتطلب الاستراتيجية الفلسطينية المطلوبة، لمواجهة صفقة القرن، وتغيير ميزان القوى، ثلاثة عناصر أساسية: الإقرار بفشل اتفاق أوسلو وملحقاته ونهجه، والاستعداد لاستبدال ذلك النهج، بنهج كفاحي مقاوم للاحتلال ولمنظومة الأبارتهايد العنصرية. القبول بمبدأ الشراكة الديمقراطية بين القوى الفلسطينية كافة، بعدما ثبت قطعاً استحالة تفرّد أية قوة منفردة، مهما عظم شأنها أو تاريخها، بقيادة النضال الفلسطيني، وذلك يعني القبول بمبدأ إنشاء قيادة وطنية موحدة تكون مسؤولة بشكل جماعي عن القرارات الكفاحية والسياسية. استعادة الشعب الفلسطيني حقه في اختيار قياداته عبر الانتخابات الديمقراطية الحرّة، الرئاسية والتشريعية وللمجلس الوطني الفلسطيني، مدخلا لإصلاح منظمة التحرير، واستعادة هيبتها ودورها، وبمشاركة الفلسطينيين في الداخل والخارج، من دون السماح لإسرائيل بامتلاك حق الفيتو على الانتخابات الفلسطينية، والإصرار على إجرائها في القدس مثل سائر الأراضي الفلسطينية، ولو تم ذلك بجعلها معركة للمقاومة الشعبية في مواجهة المنع الإسرائيلي، أو القيود التي قد يفرضها.
لم تعد “صفقة القرن” مجرّد خطة نظرية مرفوضة، بل أصبحت واقعاً يطبق على الأرض، ولا يملك الفلسطينيون رفاهية الانتظار، أو خيار تأجيل مواجهتها… وقد حاولت الحركة الصهيونية، وما زالت تحاول، تكرار ما فعله المستعمرون الكولونياليون في أميركا الشمالية، بنفي وجود الشعب الأصلي على أرض فلسطين، بعدما عجزت عن إبادته، ولكن معضلتها الكبرى كانت وما زالت، أن الشعب الفلسطيني نجح، على الرغم من النكبة والتهجير لأكثر من نصفه، في البقاء على أرض وطنه، وبنسبةٍ تزيد عن نصف مجموع السكان على أرض فلسطين التاريخية. ولذلك تنهمك المؤسسة الإسرائيلية في إعداد خطط منهجية وتطبيقها، لتحييد هذا الوجود الفلسطيني، تارة عبر ممارسة القمع الوحشي ضدّه، وتارة عبر تعميق الانقسام في صفوفه، ومحاولة تدجين أجزاء منه، وتارة عبر إشغاله بهموم الحياة اليومية وتوفير مقوّمات العيش، ودائماً عبر إخضاعه لكل أشكال التمييز والاضطهاد العنصري.
ولن يعفي التاريخ القيادات الفلسطينية من مسؤوليتها، إن لم تُبادر، إلى التقاط زمام المبادرة، وتوحيد صفوف شعبها، في مواجهة ما قد يسجّل في المستقبل أكثر مراحل نضال الشعب الفلسطيني خطورةً في تاريخه.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”