كتب: معن البياري
للبناني جورج قرداحي والفلسطيني منصور عبّاس والمغربي عزيز أخنوش والأردني باسم عوض الله والليبي عبد الحميد الدبيبة أن يتنافسوا في تخيّرنا أيا منهم شخصية العام 2021 عربيا. لكننا سنُخطئ، فالأمر محسومٌ لرئيس تونس الراهن، قيس سعيّد.
هو الأحقّ بهذه التسمية. وفي كل الأحوال، يتعلّق المعنى هنا بكثافة الحضور في الإعلام، وبالانتباه العام إلى هذه الشخصية، من دون وجهةٍ إلى تقويم بالسلبي أو بالإيجابي. وحده الشذوذ في أفاعيل سعيّد في العام الذي يستأذن بالانصراف، وكانت تُحسَبُ أولا هزليةً، ثم صارت مُقلقةً، إلى أن أصبحت كارثيةً، يسوّغ وضع الرجل في المنزلة المسمّاة في العنوان أعلاه. لم ينكتب، في أخبار الأمصار في مشارق ومغاربها في سالف الأزمان، أن رئيس جمهوريةٍ اشترك مع ضيفٍ نظيرٍ له في مؤتمر صحافي من دون حضور صحافيين.
ولن يدوّن الرواة في قادم الدهور أن رئيسا سيُشارك رئيسا آخر ضيفا عنده في مؤتمر صحافي مشروطٍ بألا يتوجّه إليه أحدٌ بأي سؤال. وقبل الواقعتين، استقبل قيس سعيّد ثلاثة من صحافيي “نيويورك تايمز”، في قصر الرئاسة، وجعلهم يُنصتون إليه، ولم يأذن لأيّ منهم بأن يتكلم (شابتان وشاب)، وسمعوا منه، من بين كلام ساكت كثير (بالتعبير السوداني، ويعني كلاما فاضيا)، أنه معجبٌ بالدستور الأميركي، ظنّا منه أنه يتكرّم بهذا عليهم.
ولا ندري أي شعورٍ غشيه لمّا قرأ التقرير الوافي، وبالغ الأهمية والفائدة (لا نقول الشجاع ولا الجريء، فالحديث هنا عن “نيويورك تايمز”)، إذا كان قد قرأه، وقد أبلَغنا بأوجه بؤسٍ كثيرةٍ يقيم عليها سعيّد، في تفكيره وإدارته شؤون البلاد وفهمه الدستور والقوانين، وكانت الجلسة تلك يومين بُعيْد فعلته في الدستور والبرلمان والحكومة، وعدّها إجراءاتٍ استثنائيةً، أقنع نفسَه بها، في تأويلٍ خاصٍّ من عنديّاته لمادةٍ في الدستور، في يوليو/ تموز الماضي.
لم يتأكّد أن أخصائيا نفسيا كان في عداد وفدٍ أميركيٍّ استقبله قيس سعيّد في قرطاج، وقد ذاع خبرٌ تضمّن هذا، من دون أن يسنَده ما يحسم صدقه التام، غير أن نزْرا من الفِطنة قد يلزم لتفسير سبب إشاعةٍ كهذه (قد تكون صحيحة)، من قبيل إن ثمّة لزوما لفرويد (ومن في منزلته في علم النفس) لشرح ما يعصى على الفهم في شخصية الرئيس التونسي، والتي كان الظن أنها مطبوعةٌ بسمتٍ قذّافيّ، غير أن الذي اتّضح تاليا أن العُظام الذي كان عليه العقيد الليبي القتيل يغاير الذي يقيم في جوانح صاحبنا هذا، وإنْ ثمّة مشتركاتٌ نُصادفها في كليهما، الركاكة وأورام الذات و… . ولأن الأمر هنا يتعلّق براهن بلد عربي، كان الرهان عليه عريضا أن يبني تمرينا ديمقراطيا عربيا، ينهضُ على الاستثناء الذي تجلّى قدّامنا في غير محطةٍ بعد الثورة البهيجة في خواتيم 2010، فإنه يبقى مطلوبا أن تُؤخَذ الحالة شديدة الخطورة التي يمثلها قيس سعيّد على محمل الجدّ، وقد أصبح حال تونس، على ما تنطق به الأخبار المتواترة منها، وما يحدّثنا به أصحابُنا ومعارفنا من هناك، مؤسيا، سيما على صعيد الازورار العام عن اليقين في أي شيء، وحيث الإحساس العريض بتفاهة كل شيء، كل فعل سياسي، يصدُر عن أيٍّ كان.
لقد نجح قيس سعيّد في تنشيط اليأس بين مواطنيه، بعد أن كانت مقاديرُ من هذا اليأس قد تسلّلت في المجتمع، لأسبابٍ غير قليلة. استنجد بشعر من أبو العتاهية في امتناعه عن ختم قانونٍ صادق عليه البرلمان بإرساء (إنشاء) المحكمة الدستورية العليا في إبريل/ نيسان الماضي، فأبطله. لم تبعث رسالُته في هذا الخصوص على الضحك فقط، وإنما أيضا أشاعت أسفا على ما صارت عليه تونس، عندما يصبح لها رئيسٌ (منتخب كما لا يجوز أن ننسى) بهذا المستوى. رئيسٌ لم تُسعفه فصاحته المفتعلة بغير تسمية الاحتلال الفرنسي بلاده “حماية”. رئيسٌ لا يعرف أوزان نخبٍ مقدّرةٍ في بلده، في غير مسألةٍ وشأن، ويفترِض في نفسِه علما لا يُحرزه أحد في تونس. يتسلّح بمماشاة الجيش وقوى الأمن معه، وبطبطبة الأميركان والفرنسيين على كتفيه، وباستحسان أبوظبي والقاهرة والرياض ما يجترحه من كوميديا بين وقت وآخر. يُصدر المراسيم والفرمانات لا لشيءٍ إلا للتأزيم أكثر وأكثر، ويستطيب حكومةً بكماء اختارها له معاونوه ومعاوناته الخلّص.
سدّد قيس سعيّد في العام قيد المغادرة عدّة ركلاتٍ في غير مرمى. وها هو حاكمٌ متفرّد، يحسب نفسه حكيما. .. هل يستمرّ حال تونس هذا بوجود هذا الرئيس رئيسا في العام الجديد؟ لا أعرف، وإنما أعرف أنه من يستحقّ حسبانَه شخصية 2021 عربيا.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”