كتب: سيف الدين عبد الفتاح
في سياق المقالات التي كتبها صاحب هذه السطور باعتبارها “هوامش على الظاهرة الاستبدادية”، وبعد ذلك الاستعراض الواسع لكتابات كثيرة عن مسألة الاستبداد، خصوصاً التي ألفت في الفكر السياسي العربي، وكذا الكتابات الأخرى التي قامت عليها مؤسسات بحثية أو شكلت تأليفات فردية من الجانب الغربي، وكانت منطقتنا العربية والإسلامية من بين مجالات اهتمامها، فإن هذه المقالة تذكّر هنا بمسألتين تطرقت إليهما سابقاتها في هذا المقام.
الأولى، تتعلق بذلك الكتاب العمدة الذي ألفه عبد الرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، إذ تناول في مقدمته تعريف السياسة، واصفاً إياها بعلم “إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة”، وأن الاستبداد أول مباحث السياسة وأهمها، معرّفاً إياه بأنه “التصرّف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى”، الأمر الذي يشير إلى أنه كان يوحي، من خلال تلك الإشارة الذهبية، إلى ضرورة تأسيس هذا العلم لدراسة الاستبداد. وتعود المسألة الثانية إلى حوار بيني وبين المستشار طارق البشري، رحمه الله، عن ضرورة تأسيس هذا العلم، مؤكّداً أن يعمل أساتذة في علم السياسة والاجتماع والإدارة والقانون على دراسة الجوانب المختلفة لتأسيس هذا العلم.
ولعل تلك الإشارات الأخيرة التي قدّمنا لها بين يدي عنوان “تفكيك الاستبداد” من المسائل المهمة في هذا المقام، ومن الضرورات العلمية والمنهجية التي أشار إليها الكواكبي، والتي أسماها ضرورة صناعة البديل بتلك الحالة الاستبدادية ضمن استراتيجية واسعة لتأسيس المعاني التي تتعلق بإصلاح منظومة الحكم، وتمكين المنظومة البديلة المتعلقة بالحكم الراشد.
من خلال تينك الملاحظتين، أشير إلى مكونات وعناصر مهمة تتعلق بتأسيس لهذا العلم دراسةً، والقيام بكل ما من شأنه تفكيك الاستبداد حالةً وممارسةً. الأمر الأول، الاهتمام بتلك الدراسات التي تتجاوز المسألة التي تتعلق بوصف الحالة الاستبدادية وأشكالها المتعدّدة، والعوامل المعقدة التي تسهم في تكوّنها وتراكمها، إلا أن الاستفادة الأساسية التي تتعلق بهذا الشأن أن شبكية الحالة الاستبدادية لا بد أن تواجه وتقاوم من خلال شبكية مماثلة في سياقاتٍ تتعلق بكل المجالات المرتبطة بالنشاط والفاعلية الإنسانية، وأحوال المواطنة التي تتعلق بتمكين أدوات الفاعلية للانخراط في استراتيجية المواطنة الواسعة في المديين، المنظور والبعيد. ولعل الإشارة إلى مجالات الدين والعلم والمجد والمال (الاقتصاد) والأخلاق والتربية والترقي، والتعرف إلى كل هذه المجالات، إنما يؤكّدان أن من الضروري أن تكون تلك الاستراتيجية على مستوى الشمول ذاته للتعرّف إلى مداخل المواجهة ومسالكها، وصناعة البديل في مواجهة الاستبداد والقيام على تأسيسه.
يتعلق الأمر الثاني بثنائية مهمة، ترتبط بما جرت الإشارة إليه من “الدولة العميقة” التي يمكن أن تواكب هذه الحالة الاستبدادية، وتصنع مجالات التمكين لها في شأن الحكم والسياسة، وما يتعلق بالسلطة وعالم البيروقراطية والإدارة. وفي مقابل ذلك، تصنيع ما يمكن أن يواجه الدولة العميقة على مدار الزمان وامتداده يحتاج أيضاً هندسة ما يمكن تسميته “المجتمع العميق”. ويراد به مواجهة كل تلك الأمور التي تتعلق بقابليات الاستبداد في مجالات الاجتماع والعلاقات الإنسانية والحالة التربوية والثقافية، ذلك أن هذه القابليات تشكل أهم شروط التمكين للحالة الاستبدادية ممارسةً واستمراراً، وأن المجتمع العميق ضمن تأسيس عمليات الوعي إنما يشكل، في الحقيقة، مسائل ومسالك لتمكين كل ما يتعلق بتقوية المجتمع في سياق مواجهة سلطة الاستبداد، سواء تعلق ذلك بلحمته وتماسكه، بأفكاره ووعيه، بأصول تربيته وثقافته العامة، بأنساقه ومنظوماته التي يمكن أن تسهم في تقوية هذا المجتمع والتمكين لأدواته في مواجهة الظاهرة الاستبدادية بكل امتداداتها وتشكلاتها.
وينشغل الأمر الثالث بالمسائل الإجرائية التي تتأكّد فيها الضرورة بالاهتمام بعمليات تفكيك الاستبداد، من خلال تناول موضوعاتٍ وقضايا للتعرّف إلى الكتابات التي ترتبط بتشريح “الديكتاتوريات” والوقوف على طريقة عملها، والمسائل التي تتعلق وتساعد على انهيارها، وذلك من خلال دراسة الخبرات المختلفة التي حدثت في التاريخ، ذلك أن الوقوف على تلك القوانين والسنن ودراسة تلك التفصيلات الإجرائية في ما يتعلق بكيفية العمل بما يؤكّد ضرورة أن نقدّم دليلاً إرشادياً مهماً لمن يقوم ويسهم، أدوات ومجالات في تفكيك الاستبداد، والتعرّف إلى مفاصل الظاهرة في محاولةٍ لشلّ فاعليتها، والقيام بصناعة الوسائل والآليات للمقاومة والمواجهة، ولعل ذلك من الأمور التي على من يؤسّس هذا العلم أن يؤصل لعناصر الاستفادة من هذه الخبرات، من دون أن يعني ذلك محاولة استنساخها، ذلك أن من القوانين التي تحكم هذه التجارب وتلك الخبرات أنها لا تُستنسخ، وأن الوقوف على كل العناصر التي ترتبط بخصوصية المجتمعات والخبرات يتطلب مراعاتها ضمن سياقاتها، وضمن السنن والقوانين التي تتعلق بها. وشأن الإجراءات والوقوف على تفصيلاتها من الأمور المهمة في دليل التفكيك الذي أشرنا إليه، والقيام بدراسات ميدانية جديدة أو الاستفادة من الدراسات السابق إعدادها، من الأمور الضرورية في هذا السياق.
ويتعلق الأمر الرابع بالوقوف على الشروط والإمكانات التي تتصل بصناعة البديل ضمن تصورات تأصيلية وتطبيقية للمسألة التي تتعلق ببناء الحكم الرشيد وهندسته، وكل ما يتعلق به من عمليات ترتبط بأصول إدارة الانتقال السياسي والمؤسسي، وعمليات التحوّل الديمقراطي وإدارته هي من الأمور الضرورية والمقدمات الأساسية لبناء منظومات الحكم الرشيد، وهو ما يشير إلى عمليات أساسية وابتداع آليات فعالة في عمليتي الانتقال والبناء ضمن استراتيجياتٍ مدروسةٍ تؤمنها وتكملها. التفاصيل المتعلقة ببناء الحكم الراشد متطلبات وشروط من المداخل المهمة لا تتطلب فقط بحوثاً مستمرّة، على المستويين، التطبيقي والميداني، ولكنها كذلك، لا بد وأن تحافظ على كل الخمائر التي تتعلق بعمليات التغيير وإمكاناته، بما يحقق الهدف، والمقصد في التمكين على طريق الحكم الرشيد. وعلينا أن ننظر في هذا المقام إلى البنية التحتية الخادمة لهذا الحكم الراشد لنؤسّس لها. وفي سياق تمكين قطاعات أساسية في مسيرة التغيير، مثل الشباب والمرأة بما يحمله ذلك من تصوّرات فاعلة لصناعة ما يمكن تسميته “الظهير الشعبي لعملية التغيير”، والذي يتسلح ويتحصّن بحالة من الوعي والقدرة على الفعل، في إطارٍ يتعلق بالكيفيات التي ترتبط بإدارة التدافع وإدارة التغيير.
نحو تأسيس “علم لدراسة الاستبداد”تشكّل هذه المسارات الأربعة، في حقيقة الأمر، منظومة يجب أن نتعرّف إلى أصول التفعيل والتشغيل لها في سياقٍ يؤكّد هذه المسارات، بحيث يجري التغيير والبناء فيها على التوازي لا التوالي، من دون أن يعني ذلك الوقوف على المفاصل الرئيسية التي تشكل روافع حقيقية لعمليتي التدافع والتغيير. ويجعلنا هذا كله، من خلال هذا المدخل المهم، أن نتحدّث بعد ذلك عن هذا العلم، بكل تشكيلاته وتكويناته وموضوعاته وأهدافه ومقاصده، بما يفتح الباب أمام كل هؤلاء الذين يهتمون بتلك المتطلبات البحثية، وأولئك الذين يجيدون استخدام الأدوات والآليات المتاحة، حتى تتحقق هذه المقاصد والغايات متكاملة، وعلى نحو فعال، فبناء هذا العلم على هذا النحو، وبتلك الكيفيات، بات من المسائل الضرورية للنهوض بكل ما من شأنه تفعيل هذا في ميدان الواقع، ومواجهة الظاهرة الاستبدادية والاشتباك معها.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”