كتب: محمد أحمد القابسي
كشف استطلاع رأي أجرته مجموعة I NSIGHTS.TN، ونشرت نتائجه أخيراً، أنّ 86.7 % من التونسيين يعتقدون أنّ الدولة لم تنجح في مكافحة الاحتكار وغلاء الأسعار، وأنّ 60.7 % غير متفائلين بمستقبل البلاد، وأنّ 69.2 % يرون نظام الحكم القائم بعد قرارات 25 يوليو/ تموز ليس ديمقراطياً. وقد تزامن هذا الاستطلاع مع انفجار جدل في البلاد، في ما عُدّ صدمة، إثر مضمون الوثيقة المسرّبة، أنّ الحكومة برئاسة نجلاء بودن، تعتزم القيام بجملة من الإصلاحات الاقتصادية والمالية، هي مجمل البرنامج الإصلاحي والإجرائي، استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي المعروفة، في ظلّ صيحات الفزع من شبح إفلاس الدولة، والتي أصبح يكرّرها الخبراء، بعدما سدّت كلّ أبواب التمويل الخارجي، وتخلي الشركاء الإقليميين عن ضخ الأموال، ما راكم مفردات أزمة اجتماعية، وبداية فقدان المواد الأساسية في الأسواق، وتوسع دوائر الاحتجاج الشعبي في الجهات الداخلية والأحياء الشعبية في العاصمة.
أعدت الحكومة الوثيقة الصدمة، ويتوقع متابعون أن يشعل مضمونها شرارة فتيل الانفجار، وهي من أكثر من 50 صفحة من الإصلاحات، في مقدمتها تفويت (خصخصة) مؤسسات ومنشآت عمومية، واعتماد الأسعار الحقيقية لسعر المحروقات ورفع الدعم عن الكهرباء والغاز، خصوصاً تجميد كتلة الأجور. وبالتوازي مع نشر هذه الوثيقة، يتواصل جدل عام في تونس بشأن الأحكام الجديدة الواردة في قانون المالية والميزانية الجديدين، وما خلفه من انتقادات واسعة من المنظمات الوطنية، في مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) ومنظمات المجتمع المدني وعدد عريض من الخبراء والمختصّين.
تسعى الحكومة التونسية من الإجراءات الموجعة جداً التي تعتزم إعلانها إلى إرضاء صندوق النقد الدولي، للوصول إلى اتفاقٍ تتحصل بموجبه على قرض بقيمة أربعة مليارات دولار، وهو المبلغ نفسه المرسّم في الميزانية ضمن خانة القروض الخارجية، علاوة على أنّ الحكومة تسعى إلى الحصول على الضوء الأخضر من الصندوق للخروج إلى الأسواق المالية الدولية لتعبئة الموارد الضرورية لتمويل الميزانية.
وقد رأت نخب تونسية عريضة أن إجراءات حكومة بودن هذه المقدّمة إلى صندوق النقد الدولي، من أجل “ترويضه” ستفاقم من مصاعب عموم التونسيين، مرجّحين حصول انفجار اجتماعي وغضب شعبي كبير بسببها، فيما تسوّق الحكومة هذه الإجراءات “الإصلاحية” مقرونة مع إجراءات أقرها الرئيس قيس سعيّد، أخيراً، للخروج من الأزمة في البلاد، وسيجري بموجبها تجميد الأجور بين العامين 2022 و2024، وتجميد الانتداب في الوظيفة العمومية والتخلي عن الديون العمومية في ذمة الشركات الحكومية، إلى جانب مراجعة سياسة الدولة في علاقة بمساهمتها في رؤوس أموال هذه الشركات الحكومية، وصولا إلى الخصخصة فيها، بداية من 2022، علاوة على الرفع التدريجي للدعم على المحروقات، إلى أن يبلغ سعرها الحقيقي المعمول به عالمياً في أفق سنة 2026، مع رفع أسعار استهلاك الكهرباء والغاز، ووضع منظومة إلكترونية تسمح بالتسجيل والتصرف في التحويلات المالية للفئات المعنية بتلقي التعويض عن رفع دعم المواد الأساسية ابتداء من سنة 2023. وتوضّح الوثيقة مصادر تمويل عجز الموازنة، والتي لم يتم الإعلان عنها سابقاً، ومنها وعود بتمويل من العربية السعودية بقيمة مليار دولار، وكذلك الضمان الأميركي المشروط بالتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وذلك ما لم يحدث.
وبالعودة إلى إجراءات قيس سعيّد وتداعياتها على نسق المفاوضات الدائرة بين تونس والمؤسسات المالية المانحة، وفي مقدّمتها صندوق النقد الدولي، فقد وقع عملياً، بسبب هذه الإجراءات، تعليق كلّي للمفاوضات مع هذه المؤسسات والصندوق، مباشرة، خصوصاً مع إسقاط حكومة هشام المشيشي التي كانت قد أنهت الجولة الثانية من المفاوضات مع الصندوق، بشأن تحديد الأرقام المرجوّة من الإجراءات، أي الأهداف النقدية بلغة الأرقام، بعدها أمهل السلطات التونسية الصندوق حتى قيام حكومة شرعية جديدة ومعترف بها دولياً، كما طالب المانحون التزاماً من السلطات السياسية التونسية، ومن القوى الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف لتنفيذ البرنامج الإصلاحي المقترح، وكان من المفترض أيضاً ومن المطلوب تمرير الاتفاق مع صندوق النقد، عبر البرلمان الذي علقت أعماله، علاوة على توضيح المستقبل السياسي للبلاد.
وانطلاقاً من حسابات الربح والخسارة، رأى اتحاد الشغل أنه الخاسر الأكبر من هذه الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي، والتي ستكون مكلفة للغاية للطبقة الوسطى، كما يرفض رفضاً قاطعاً التفويت (الخصخصة) في المؤسسات العمومية، والحد من كتلة الأجور التي سيتضرر منها أكثر من 700 ألف موظف عمومي تونسي، يمثلون تقريبا 17% من الناتج الداخلي الخام. ولم يستسغ سعيّد موقف الاتحاد هذا الرافض برنامج الإصلاح والإجراءات التي يشترطها صندوق النقد الدولي، فبادر إلى إعلانه عداءه الوسائط المدنية والاجتماعية والسياسية، بما فيها الاتحاد العام التونسي للشغل، التي يعدّها من ضمن مكونات المنظومة السابقة، في حين تمثل جوهر الديمقراطية التمثيلية، كما سخر من فكرة الحوار الوطني التي اقترحتها المركزية النقابية في انفلات عاطفي جرّه لتخوين الرباعي الراعي للحوار (2014) الحاصل على جائزة نوبل للسلام. وأمام خطاب التجاهل المعلن ومنزع التحجيم من سعيّد، وفي لحظة حماسية، قال أمين عام الاتحاد (المركزية النقابية)، نور الدين الطبوبي، إنّ منظمته مستعدة لمعركة كسر العظام، ما جعل العلاقة بين رئاسة الجمهورية والمنظمة الشغلية تدخل مدارات الثلج والقطيعة. زاد برودتها المرسوم الذي صدر أخيراً، ويمنع الوزراء والمسؤولين عن المؤسسات العمومية، الاتصال بالنقابة، من دون الرجوع إلى رئاسة الحكومة، وقد قيل إنّها رسالة إلى الطبوبي، وإنّ سردية الماكينة النقابية القادرة على مناكفة الحكومات انتهت، وإنّ سعيّد مصمم على تحجيم دور الاتحاد في الفضاء العام. ومدفوعاً بمنطق المرور بالقوة، زاد سعيّد الطين بلة بإصداره قانون الميزانية في شكل أمر لم يستشر فيه من درج على تسميتهم الشركاء الاجتماعيين، وفي مقدمتهم منظمة الأعراف واتحاد الشغل.
وبما أنّ للواقع إكراهاته، كما للسياسة أوهامها، وبما أنّ كلّ المؤشّرات في تونس أصبحت حمراء، إنذاراً بأزمة مستفحلة، وقد يكون مآلها انفجاراً شعبياً قادماً، عاد قيس سعيّد ليستقبل أمين عام الاتحاد، نور الدين الطبوبي، منشداً أبياتاً من نونية ابن زيدون، في غير محلها، راجياً دعماً من المنظمة النقابية لوثيقة الحكومة الصادمة، عسى أن يتم ترويض صندوق النقد فيستجيب لمطالب تونسية مالية. لكن للطبوبي إكراهاته كذلك، بل ولعلها أشواكٌ في الطريق قد تُدمي قدميه، إن لم تخرجه أصلاً من الطريق.
اليوم، وأمام هذا الانسداد المعلن، الخوف كلّ الخوف أن يعمل سعيّد للمرور بالقوة، محرّكاً ملفات مالية أو غيرها، لإرغام اتحاد الشغل على المضي في ما لا يرغب، في مسعىً للحصول على الدعم المالي من صندوق النقد الدولي، في ظلّ عدم توفره، قد يخيم شبح الإفلاس على الدولة، وهو ما قد يعطي الحق للتونسيين في أن يفقدوا الثقة في مستقبلهم القريب قبل البعيد.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”