كتب: سامح راشد
بعد عشرة أعوام، لم تنل ثورة يناير في العام 2011 في مصر ما تستحق من تحليل وتقييم، سواء في سياق تاريخي أو علمي محايد، أو من منطلق سياسي يتبنّى موقفاً مسبقاً معها أو ضدها، فهي الثورة المصرية الوحيدة بعد ثورة 1919، أي خلال مائة عام تقريباً، غير أنها لا تزال تعاني فقراً أكاديمياً وتواجه تعتيماً وكبحاً سلطوياً. فقد اتسم الموقف الرسمي منها بعد العام 2013 بالازدواج والتناقض، باستنكار “ما جرى” في يناير، والتشديد على أنه لن يحدث مرة أخرى، من دون إطلاق اسم “ثورة” عليه أو أي اسم أصلاً.
وفي الوقت ذاته، يتجنب الموقف الرسمي إعلان هذا الإنكار صراحة أو تقنينه بالوثائق الرسمية. إذ ينص الدستور الحالي على أن مصر ما بعد 2013 ليست إلا أحد مكتسبات “ثورة” 25 يناير. ولكن قد يزول الالتباس وينكشف الموقف الحقيقي رسمياً، بمحو “يناير” من الدستور، ضمن تعديلاتٍ متوقعةٍ قبل عام 2024. وقد ظهرت بالفعل منذ عامين بوادر نكوص رسمي عن الاعتراف بثورة يناير، إذ أعيد ترسيم يوم 25 يناير عيداً للشرطة كما كان قبل 2011، مقابل محو أي إشارةٍ إلى أنه يوم شرارة ثورة يناير التي اندلعت ضد الشرطة بالأساس.
لا يمكن إنكار دور هذه المراوغة السلطوية في تشويش الصورة وزيادتها غموضاً، بشأن حقيقة ما جرى في يناير. لكن الأزمة أوسع نطاقاً من التعتيم والإرباك الممنهج الذي تمارسه السلطة في مصر. وبينما لم يصدر كتابٌ واحد يؤرّخ لثورة يناير بشكل متكامل، يجب الإقرار باستحالة تأريخ تلك الثورة في كتاب واحد، حتى وإن كان موسوعياً ومن عدة أجزاء.
ثمة جهود بُذلت بالفعل، خصوصاً التي قامت بها بعض مراكز البحث في الخارج، لعل أبرزها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” و”مركز الجزيرة للدراسات” في الدوحة. إضافة إلى توثيق مؤسسات حقوقية مصرية بعض أحداث ثورة يناير ووقائعها، لكن ذلك الحدث المفصلي في تاريخ مصر المعاصر يظلّ في حاجة إلى عملية تأريخ كبيرة وشاملة. وقد يستغرق الأمر موجاتٍ تراكميةً متتاليةً من الكتابات والدراسات، قبل الحصول على منتج تأريخي يضم تاريخ “يناير” بوثوقية وشمولية. وللإنصاف، تُعد كل المحاولات التي جرت لتوثيق ثورة يناير وتأريخها إنجازاً حقيقياً بالمعايير الأكاديمية والسياسية أيضاً، فقد واجهت تلك المحاولات بيئة معادية وحرباً ضروساً، ليس فقط لتشويه الثورة نفسها وخلط أوراقها وتزييف حقائقها، بل أيضاً مورست حروب متنوعة ومتصاعدة ضد كل من شارك في محاولات التأريخ والتوثيق. وكان ذلك حتى العام 2013، بعده فقد صار مجرّد التفكير في توثيق ما يتعلق بيناير أو تسجيله، ولو من بعيد، أشبه بالانتحار. حتى داخل المؤسسات الأكاديمية، كالجامعات، لم يبادر أكاديمي أو باحث إلى تقديم فكرة أطروحة علمية عن يناير، أو ملفات أخرى باتت من المحظورات.
ليس هذا جديدا على سير الشعوب وصيرورة الثورات، فدائماً كانت السلطة ضد تأريخ الحقيقة. وعلى الرغم من ذلك، لا بد أن يستند التأريخ السليم والمتكامل إلى كتابات ووثائق وشهادات مصرية، إلا أن الصعوبات القائمة في مصر تحول دون إمكانية عمل التأريخ المطلوب حالياً وربما في المستقبل القريب. لذا هناك ضرورة لاستكمال جهود توثيق ثورة يناير وتأريخها، ولو بشكل جزئي أو متدرّج. وهي دعوة إلى كل الجهات والمؤسسات المعنية بتسجيل الحقيقة، بل بإحيائها، وخصوصاً التي بادرت من قبل وكانت سباقة في هذا الاتجاه، بأن تبادر إلى استئناف جهودها المقدّرة. فمع كل يوم يبتعد فيه الواقع المصري عن أهداف ثورة يناير وتطلعاتها، يصبح تأريخها واستدعاؤها، ولو على الورق، حقاً لشهدائها وأصحابها والمؤمنين بها، وواجباً على من يستطيع.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”